إنّ كلَّ زمانٍ أدرى بما يكون أحسنَ وأفضلَ لأفراده، ولذا كانت الفتوى عند المجتهدين يؤثّر في سياقِها زمانُها ومكانُها وسائلُها وحالُه، وليست قضيةُ الإنجابِ ببدعٍ من هذا كلِّه، لكن قبل ذا علينا أن نعلم ابتداءً أنه ليس هنا من تعارضٍ بين التنظيم والاستكثار المنضبط من الولد، ولا يسمّى هذا تحديدًا ولا امتناعًا من تطبيق الدين أو السنّة.
عدالةُ الوالديْن العاطفية وقايةٌ من القتلِ المعنويّ:
إنّ المطلوبَ من الوالدين أن يكونا عادليْن قدر استطاعتهما مع البنين على المستوى الشعوريّ قبل الماديّ، وهذا ما توفّره "الوسطيةُ الإنجابيةُ" لا الإطلاقيةُ من غير تخطيطٍ ولا انضباط، ولا يُفهم من "نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم" ظاهريةُ الدعوةِ إلى الإكثارِ من الولد، بل إذا كان هنا خوفٌ مع وجودِ التنظيم من أن يشغل بالَكم رزقٌ فهذه طمأنةٌ صريحةٌ من الله تعالى، على أنّ القتلَ المنهيَّ عنه في الآية قد يكونُ معنويًّا؛ بأنّ إغفالَ مسألةِ التوزيعِ العاطفيِّ العادلِ ظاهريًّا مع الولد من الممكنِ أن يؤديَ إلى قتلِ روحِ الالتزام الأسريّ عندهم، وربما سعيِهم لاحقًا إلى التخلصِ من المأوى الأسريّ، أو لفتِ الانتباهِ بجرحِ الذات وربما في بعض الحالات ما هو أسوأ من ذلك ممّا تحكيه لنا أمورٌ خاصّة موجودة.
فحصُ حالةٍ وتقريبُ صورة:
ولذا يعجبُ المرءُ عندما يرى امرأً مُصبِيًا "مِعْيل" عنده من البنين سبعةٌ أو أكثر، وحالُه بيتٌ ضيق هو غرفةٌ ينام فيها الجميع، وحمّامٌ على الدور، ومصدرُ دخلٍ لا مصدرَ له، ومشاكلُ تلقائيةٌ ينشئها التواصلُ المباشَر بين الصغار، وخلافاتٌ تسجّل بأدقّ تفاصيلها بين ربّيِ الأسرة لأنه لا مكانَ خاصًّا يبثانه همومَهما ويشكوانه حلولها، وترى أنّ الصغارَ أكثرُ وقتِهم في الخارج حفاةَ أقدامٍ سريعي الالتقاط لكل غريب وغير محتشم وينقلونه بالعدوى إلى البيت، ومهما حاول الوالدان المعالجة اتّسع الخرقُ على الراقع.!
ربما تقول لي نفسي: إنّ عدمَ تعلّم هؤلاء، أو إنّ تحصيلَهم مستوى علميًّا ابتدائيًّا جعلهم غيرَ قادرين على قراءة معادلة الحياة، لكن تعجبُ نفسي أكثر عندما ترى أنّ كرامًا معلَّمين يستدعون ميراثًا لا يصلح لزماننا المنظور حتى تجدَهم حِراصًا على تكثير السواد البنينيّ إما مباهاةً أو "عزوةً" أو انتظارًا لغائبِ السرداب الذي تأتي معه بفضل الله التوسعة، وهم في ذلك يتكيّفون مع مظاهر الألم التي كانوا أحدَ صنّاعها، ويتماهون مع شظف العيش وضيقه المتزايد عبر سنوات، وربما زادوا الداء فيه عِلّة كما زادوا فيه الطين بِلّة.
بل وربما تسمعُ: "الشجرةُ –يقصدون المرأة- التي لا تثمرُ –تنجب- حلالٌ قطعُها"، ويستدلُّ لك أولئك بالمرأة القويّة التي كانت تأتي بالعشرة وهي تنتظر البقية.. يا عفوَ الله!!
البناءُ على المستقبل بناءٌ على مجهول:
لا أريد هنا أن أتّحدث عن الجانب الماديّ الذي يظهر الوالدَ كسيرَ الظهر قليلَ الحيلة في حضرة بنيه الصغار الذين لا معنى مفهومًا عندهم عن الفقرِ ولا قلةِ ذات اليد، وقصارى ما يفهمونه أنّ الأطفالَ الذين في سنّهم ويتمتّعون بلباسٍ جميل ومصروف يوميّ من واجب والديهم أحدِهما أو كليهما أن يكونا جديرين بتوفير الحدّ الأدنى منه لهم.
وليست المسألةُ هنا دعوةً لاستدعاء النعي على التكافلِ الاجتماعيّ وعدم اهتمام الناسِ بالناس، وغيابِ الجسدِ الواحد، ونحوِ ذلك؛ لأنّ المسؤوليةَ هنا مشتركةٌ ولا بدّ؛ فإن كان هذا واجبًا بدافع الإسلام الطبيعيّ والتلقائيّ، فإنّ فهمَ الوالديْن واجبٌ في الوقع العقليّ والمنطقيّ، وإذا لم يستطيعا أن يخطّطا فلا أقلَّ من سؤال خبير ناصح أمين!
ومرة ثانية فـ"نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم" مسألةٌ لا تعالج كما قد يفهم بعضٌ مسألة الخوف من المستقبل مطلقًا؛ بل تعالج مسألة واقعية صار علاجها واجبًا أن يكون واقعيًّا كذلك بدليل قوله تعالى قبلُ "وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ"، فهم موجودون والخشية كذلك من توابعها، وهذا من واقعيّة الدين، وكأنّه يقول لنا: تعلّموا من هذا المشهد أن تكون منصفين مع أنفسكم وغيركم ممّن يأتون من أنفسكم!
تحليلٌ شخصيّ:
وقولُه تعالى "المال والبنون" ألَا يعني بالضرورة أنهما أمران متلازمان، وأنّ السعدَ الذي يكون بأحدهما يعتمد على الآخر بقدرٍ كبير؛ إذ لا وجود –غالبًا- للتحقّق بالسعادة مع المال الكثير وغياب الولد، كما أنّ السعادة تكون منقوصةً أو غيرَ موجودة إذا وُجد الولدُ الكثيرون في حين أنّ القدرة على الإنفاق عليهم غيرُ متحقّقة!!
ثمّ لماذا يشتري أحدُهم لنفسه الأفكار السلبية، والغلط على الدنيا، وربما دعا على القدر، وتكلّم عن حكمة الله تعالى في خلقه، بينما هو الجزءُ الأكبر في هذه المعادلة؛ حيث لم يكن مفكّرًا في عواقب الأمور أو كان ذا شخصية مقلّدة، وأخطر من هذا وأتعس لو كانت زوجُه أميّةَ التفكير ولو كانت جامعيةَ الشهادة!
والخلاصةُ هنا أنّ:
الدعوة إلى الترشيدِ الإنجابيّ أو الوسطيةِ في مسألةِ الولادةِ ليست رهنًا بفقيرٍ ولا فقرٍ، بل هي دعوةٌ للغنيّ الذي يرى من نفسه عدم استطاعةٍ أن يوزّع الأجواءَ العاطفيةَ على بنيه حتى يمارسَ الصحةَ النفسيةَ عمليًّا، بل وإذا كان لديه فضلُ مالٍ عاد به على من كان عنده بنونَ وقلةُ ذات يد حتى يوفقَه الله في أسرتِه وأحوالِه جميعًا، ثمّ إنّ التجارِبَ في هذا الأمر قد تكون مختلفةً ومتباينةً بشكل واضح، ما يجعل مجردَ التجرِبة ليست أداةَ القياسِ الوحيدِ اللهم إلا إذا تكررت بطريقة علمية يقبلها القياسُ العلميُّ والعيّنات العشوائية القابلة للقياس عليها، وما يلزم أكثر الاتّفاقُ على معاييرَ تربويةٍ ساهم الزمنُ والأجيالُ العلميةُ المتلاحقةُ في تبنّيها وفرضها وأثبتت أصحيّتَها وحجّيتَها.
إنّ دينَنا الحنيف مبنيٌّ على التيسير، وقوامه رفع الحرج، وأن المشقّة تجلب التيسير، والتخطيطُ في يوميّات الحياة جزءٌ أصيلٌ من الدين، فما بالك في التخطيط للمستقبل إذا لم يكن مبنيًّا على قراءة الماضي واستنطاق الحاضر؟!
وفقنا الله وإياكم لكل خير