هنا.. سبب واحد فقط لأن تجد طفلًا يحمل اسم أبيه، فهو أصبح شهيدًا، ولا بد أيضاً أن هذا الطفل لم يكن قد وفد للحياة بعد، كان سيسميه اسماً آخر، اسماً عادياً، لا قصة وراءه، لكن كل شيءٍ يختلف ها هنا بطلقةٍ واحدة!
"محمد محمد" كان هو اسم أحد طفلي الشهيد "محمد أبو ستة" الذي أراد رب العالمين لاسمه أن يبقى موجوداً حتى تنتهي الحياة، فحين سيكبر صغيره سيستغرب كل من يعرف اسمه.
قبل أن يرحل "محمد" كان الأطباء قد أخبروه أنه سيرزق بتوأمين، طفل وطفلة، وكان قد حضر اسماً لكلٍ منهما، "سيغدوان أميرين" هكذا كان يقول.
فقد حلُم كثيرًا أن يسمياهما "أمير وأميرة"، حتى شاء القدر أن يرزق بطفلٍ بدل الطفلة ويحفظ اسمه في هذه الدنيا.
زوجته "رجاء حمد" ابنة العشرين عامًا، ابنة الوطن الجريح هذا.. وضعت أمنياتها في صندوق وردي وخبأته بقلب رفيقها وشريك حياتها "محمد"، غير أن رصاصة اخترقت ذاك القلب فأحالت أحلامها رمادًا.
كانت رصاصة الجندي الحاقد على الحدود يوم الرابع عشر من مايو أسرع بكثير من احتضان طفليه، من نطقهما لكلمة "بابا"، من نشيده لهما "دادا خط العتبة"، من الأذان في أذنيهما وقت ولادتهما!
"أمير ومحمد" أتيا الى الدنيا بعد خمسة وستين يومًا من رحيل "محمد"، سيرحلان عنها دون أن ينطقا "بابا"، دون أن يتعلقا على كتفه في الصلاة ويلعبا على ظهره، دون أن يبكيا لأنه عاد من المسجد دون قطعة حلوى يحبانها.
سيسأل محمد أمه لماذا يحمل اسم والده، سيلحظان الدمع في عيون أمهما كثيرًا، سيفهمان من هدهدتها لهما أن جرحًا غائرًا في قلبها، سيسمعانها جيدًا حين تقول لهما وقت النوم: "ذلك الذي كنا نؤمل أن يُصاغ من الورود.. نسجوه من نار وظلم تدجج بالحديد"!
سيكبران.. ويعرفان أن الاحتلال هو من حرمهما كلمة "بابا".. سيفخران كثيرا..سيبكيان أكثر!
سبعة شهور فقط هي المدة التي عاشت "رجاء" فيها مع "محمد"، التي لم تجد أيًا من تعبيرات الفرح لتصفها لـ"الرسالة" عن لحظة معرفته بأنها تحمل في أحشائها طفلين!
"خطط كتير كيف نربيهم واشترالهم ألعاب وملابس" تحكي "رجاء"، ثم يغلبها البكاء كلما تذكرت حملها الثقيل الذي تركه لها "محمد"، وتكمل: "كل تفاصيل حياتهم حكينا فيها أنا ومحمد بس كل أحلامنا انهارت".
لم يكن "محمد" الابن الأول لأمه، لكنه كان الأقرب لقلبها، فهو المطيع الذي تنعدم كلمة "لا" من قاموس حياته، "روحي طلعت مع محمد وقلبي طفى" تصف لحظة وداعها له، بعد أن عانت الأمرين مع ابنها الثاني الذي أصيب برصاص الاحتلال يوم الثالث من إبريل على الحدود الشمالية أيضًا.
"عبد شتات" رفيق "محمد" منذ نعومة أظفارهما، ولدا معًا قبل سبعة وعشرين عامًا، وعاشا في زقاق واحد، يلخص "عبد" صداقتهما بقوله: "بكينا معا وضحكنا معا وقاومنا على الحدود سويًا لكنه رحل وحيدًا وقلبي نزف وحده".
حبل بين "محمد وعبد" كان يثير استغراب الجميع على الحدود من بدء مسيرات العودة تحدث "عبد" قصته لـ"الرسالة": "الحبل كان عشان ما نضيع عن بعض بزحمة المظاهرات.. نظل مع بعض، نثور سوا ونموت سوا ونتحرك سوا، عشان نضل زاكرين انه اكتافنا سند لبعض.. انه احنا مع بعض عالموت.. بس محمد راح لحاله".