تغير لون بشرة محمد تدريجيًا، تحول الى الصفرة الداكنة، فقد شعر رأسه كليًا، وخسر كيلوجرامات كثيرة من وزنه، الا أن رقعة الابتسامة حاولت التمدد باستمرار رغم هذا البؤس الى أن اختفت تمامًا حين اعترف لنا " تعبت من السفر وتفتيش اليهود.. تعبت من السرطان وفش دواء"!
لم يعارض الطفل محمد الحديث الينا، كان مُرحبًا بوجودنا في غرفة عزله في قسم الأورام السرطانية بمستشفى الرنتيسي بغزة، طلبنا منه أن يستلقي على ظهره حتى لا يشعر بالتعب، رفض قائلًا:" تعبت من النوم".
لم يتعب محمد الذي يعاني من سرطان الأمعاء منذ ما يزيد عن خمسة أشهر من سرير المرض فحسب، بل تعب كثيرًا من فقده لحقوقه العلاجية والغذائية كذلك.
والدته كانت أشد امتعاضًا أبدت استياءها من نفاد العلاج لمرضى السرطان في غزة، متسائلة:" كيف مستشفى سرطان بدون علاج؟"
قبل رمضان!
بدأ محمد بسرد معركته مع "الخبيث" محاولًا التمرد عليه، لاسيما وأن أمه أبلغتنا " ارادته قوية" هز رأسه الصغير مؤكدًا، ثم عرّف عن نفسه "أنا محمد عيد المصري من بيت حانون عمري عشر سنوات مريض من قبل شهر رمضان".
لماذا يكون طفل السرطان بهذه البراءة الزائدة، وهذه البسمة التي لا تغيب رغم شحوب الوجه، والعيون الغائرة في تجويف دائري، يربط وجعه بأنه قبل شهر رمضان، لأن الشهر لم يمر عليه بفانوسه، والصيام لمنتصف النهار لم تكن عادته كما السابق، يبدو بأنه حرم كذلك من كل طقوس الصبية في حارته، لأنه كان يئن وجعًا حين استوطن الخبيث جسده!
24 يومًا بدأ خلالها محمد بالعلاج الكيماوي في مستشفى الداخل المحتل، "صرنا نقعد أسبوع هناك وأسبوعين هنا (...) بتعب من الكيماوي لأنه بنزل المناعة عندي" بعدها تعرض الطفل لمضاعفات الكيماوي حيث تسبب له بالتصاق في الأمعاء، أجريت له على إثرها عملية معقدة.
لم يسلم هذا الصغير ومرضى السرطان في غزة من نفاد كميات العلاج في "الرنتيسي" حيث أنه عند نفاد الدواء سيزداد وضعه الصحي سوءًا، محمد يدرك أكثر من ذلك، لقد قال لنا بشكل مباشر" معايا سرطان في الأمعاء من ستة أشهر".
يضع يده اليسرى على بطنه، يشير بها الى المكان الذي شعر كأنه بات كقطعة الصخر من الانتفاخ والوجع الذي صاحبه القيء، بعدها بأيام أدرك أنه مصاب بالسرطان!
تكلفة العملية والمماطلة بإجراءات التحاليل وصورة السي تي أرهقت عائلة محمد، وهو ما أكد عليه بقوله "غلبونا في مستشفى الشفاء، وغلبونا عشان تكاليف عملية استئصال الورم غالية".
بصعوبة أجريت للطفل صورة أشعة مقطعية "سي تي" لأن أقسام المستشفيات الحكومية كانت قد أعلنت حالة الطوارئ في أقسامها وفق والدة محمد بسبب أحداث مسيرة العودة.
مؤسسة خارجية غطت ثمن عملية استئصال الورم لمحمد، فمعظم الصور والتحاليل كانت على حساب عائلته الشخصي الذي تسبب بزيادة التكاليف عليها.
مستشفى بلا دواء!
عانت الأم من غياب الدواء في غزة، كانت تتساءل أمام عدسة "الرسالة" دون توقف، "لماذا يجب علينا أن تحضر الحقن من الداخل المحتل ليأخذها في غزة، لماذا لا يتوقف هذا العناء ويتم توفير اللوازم العلاجية لأطفال السرطان في مستشفى الرنتيسي؟، ما الفائدة من مستشفى لعلاج الأورام في غزة ولكن لا يوجد دواء فيها؟".
تزداد حالة استياء أم محمد حينما يكتب لها الطبيب في "الرنتيسي" نوع معين من العلاج لشرائه من خارج المشفى، والتي بالكاد تستطيع توفير وجبة الغذاء لطفلها، تلك الوجبة المفترض توفيها من المشفى!
طلبنا من محمد نزع قبعة رأسه السوداء حتى يستطيع الاستناد على وسادته براحة أكثر، الا أنه كان متحفظًا بعض الشيء حيث نظر الى جهاز التكييف المعلق على جدران غرفته، ثم قال:" التكييف شغال ومناعتي ضعيفة، الطاقية بتخفف صداع راسي".
تنهيدة من الأم ومحمد سويًا، قررنا على إثرها إنهاء زيارتنا لغرفة محمد في قسم الأورام بمستشفى الرنتيسي للأطفال، "اذًا بماذا تحلم أيها الصغير؟" كان السؤال الأخير، وكانت الإجابة منه لتنقل وجعًا مضاعفًا للجميع "بدي أصير دكتور عشان أعالج أطفال السرطان، لإني عارف إنهم راح توجعوا كثير".