محرر لطالما زرعت بلادنا قصص الفداء في قلوب شبانها منذ الطفولة، حتى غدا أحمد أيقونة جديدة وقصة تضاف إلى ملايين قصص الفداء في أزقة الوطن الجريح! في حكاية "أحمد ياغي" ذاك الثائر العشريني، تؤمن أن قصص الصداقة ملحمية في غزة، فلطالما أمسكته أمه يكلم طيفاً وخافت على عقله، كما ظنته أحيانًا قد نام على الأريكة وغط في حلم يتحدث به مع أحد.
كان يجيبها أحيانًا ضاحكاً "بكلم في مصعب يما"، وأحيانًا كثيرة باكيًا "اشتقت له". مصعب هو صديق أحمد منذ لهو الصبا، صديقان فرقتهما الشهادة، لشهور فقط ثم جمعتهما مجدداً. في تلك الشهور فعل أحمد كثيرًا، وكان يخبر مصعب دائماً بما يفعل كما لو كان الأخير حياً وهو كذلك.
"مصعب أبو ليلة" كان رفيقًا لأحمد في الحارة والمسجد والضحكات والبكاء، كان أيضًا ملازمًا له على الحدود. دقيقة واحدة كانت الفارقة بين أن يستشهدا معًا، وبين أن يغص قلب أحمد لفراق "مصعب" يوم الرابع عشر من مايو، حيث الغضب كان يلازمهما لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
نحو السلك تقدم "مصعب" وابتعد عنه "أحمد" مسافة قليلة ليحضر "عجل كوشوك" ليعود على صوت رصاصة اخترقت جسد رفيقه فأردته شهيدًا وعلى صراخ الشبان وتكبيراتهم حوله. "ياغي" ذو الخمسة والعشرين عامًا هو "المسعف الجريء" باصطلاح معارفه، حيث لم يكن رجال الإسعاف يجرؤون على الاقتراب من نقطة الصفر حين إصابة شاب، بينما كان أحمد يسارع لتنفيذ تلك المهمة الصعبة.
حتى كانت جنازته صورة حية لتضحياته، حين جاء جرحى غزة من كل حدب وصوب يشاركون في تشييع بطل حماهم من الموت ذات يوم! في اليوم الأول من استشهاده اقترب شاب في سرادق العزاء من شقيقه "منتصر" يمشي على عكازتين ليهمس له أن "لولا لطف الله وشجاعة أحمد لبترت قدمه"، حيث حمله قريبًا من السلك وركض به لنصف ساعة حيث يتواجد الإسعاف.
"طلعت ما بعرف إشي عن ابني" تقول أمه لـ"الرسالة" باسمة رغم كل موجات الحزن التي اجتاحت ملامح وجهها، وحين سألناها عن السبب أجابت: "عرفته ممن رافقوه على الحدود.. عرفت قلبه وشجاعته.. تفاجأت بدرجة كبيرة".
"الجندي المجهول" هكذا أطلق عليه الثائرون على الحدود، والبعض سماه "الجوكر" وذلك لأن "أحمد" سطر أمامهم على الحدود مواقف بطولية لا تنسى من ذاكرتهم. عجل الكوشوك الذي كان يمسك به أحمد وهو مشتعل أثار الحيرة في قلب أمه حين رأت صوره، كما صور الأطباق الورقية التي صنعها أحمد وكانت من أوائل الأطباق التي أحرقت أحراش الاحتلال في مسيرات العودة.
كف من دمه طبعه "أحمد" على أحد ملابسه، سيبقى ذكرى لأمه، كلما اشتاقت تخرجها تشتم رائحته فيها، كما كتب عليها أيضًا: "غزة عربية حرة رغم المواجهات".
هذا الدم أوجع قلب أمه حين نزف من قدم أحمد، قبل ثلاث سنوات حيث قنصه جندي إسرائيلي على الحدود وقت انتفاضة القدس عام 2015، ليعود المشهد إلى ذاكرتها يوم استشهاده بشكل أقسى بكثير يوم أن وجدته غارقًا في دمه عند ثلاجات الموتى! يوم الثالث من أغسطس خرج "أحمد" متوجهًا إلى الحدود الشرقية لقطاع غزة، وصل الساعة السادسة والنصف ليجد الناس بدأوا بالعودة إلى بيوتهم، فتقدم نحو السلك قبالة الجنود. كانت الثائرة الستينية والدة الجرحى الثلاثة "أم علي أبو الريش" قد لمحت "أحمد" وهو يقترب من الحدود، فصرخت به أن يبتعد عن السلك فضحك لها وطلب منها أن تسقيه ماء فسقته فانتبهت لمجندين يصوبون بنادقهم نحوه فما إن ذهب حتى قنصوه برصاصة في صدره.
كان يوم الخميس الذي يسبق استشهاد "أحمد" استثنائيًا، حيث هب لصديقه الذي حدث بينهما سوء تفاهم فقاطعا بعضهما بعض الوقت وطلب منه المسامحة، كما طلب من إخوته أن يغفروا زلاته إذا كان قد أحزنهم يومًا.
"خلي امي تلبس توبها الفلاحي وتلف الكوفية على اكتافها لما أستشهد" هذه الأمنية التي باح بها "أحمد" لأخيه الذي يقطن في الضفة الغربية ليلة استشهاده، والتي حققتها له وقت أن طبعت على جبينه قبلة الوداع! "منتصر" شقيق الشهيد "أحمد" الذي توارد إليه مقاطع الفيديو لأحمد يوم استشهاده قال: "الشهيد عمر المختار قال قبل استشهاده "نحن لا نستسلم ننتصر أو نموت"، وصدام حسين قال قبل موته بأيام "تعيش الأمة تعيش العراق تعيش فلسطين"، وأحمد قال "لا نركع إلا لله فإما النصر أو الاستشهاد".
"لا فرحة في العيد واصدقائي فارقوني شهداء"، كتبها "أحمد" عبر حسابه على الفيس بوك يوم عيد الفطر، ليعود اصدقاؤه ويكتبونها يوم عيد الأضحى "لا فرحة في عيدنا وأحمد سبب ضحكاتنا شهيد"! المشهد الأخير لأحمد في عيون أمه.. أصدقاء له يبكون بحرقة عليه ويهتفون بغضب "يا أحمد ارتاح ارتاح احنا نواصل الكفاح"، وتراتيل الأنشودة الباكية التي كانت تصدح "شيلوه يا احبابه شيلوه يا أصحابه قلبي رضي عنه