لا أحد يصدق أن (مليونيراً) أصيب في مسيرات العودة على حدود قطاع غزة فما الذي يدعو صاحب المال والأعمال أن يعرّض نفسه للخطر؟! , الحق والحق يقال أنه أصيب بقنبلة غاز رشت له الملح بسخاء فوق جرح إصابة قديمة في ذات الموضع .
عندما قابلت الشاب علي بنات (30) ويعمل حداداً في الجمعة الثانية لمسيرة العودة كان يقوم بمبادرة صناعة نموذج مفتاح العودة وتوزيعه على المشاركين للتذكير بجوهر القضية والمسيرة السلمية .
بعد عدة أسابيع أصيب علي بقنبلة غاز أدت لكسر في ساقه وأضرار بالغة في مفصل الركبة أثّرت على الأربطة وقد قرر الأطباء له عملية عاجلة وفترة طويلة من العلاج الطبيعي لكن المشكلة الحقيقية أن علي كان قد أصيب عام (2005) برصاص الاحتلال في ذات الموضع ما أدى لخروج دائم في مفصل ركبته عن موضعه حتى اليوم .
وفي كنف الأيام الأولى لمسيرة العودة انتشر على شبكة الانترنت قصة (المليونير) علي بنات الذي حقق ثروة طائلة وامتلك الشركات في أستراليا لكنه تبرّع بكامل ثروته لفقراء أفريقيا والمعوزين بعد إصابته بالسرطان وواصل فعل الخير حتى توفي .
الاطباء والممرضون تندروا بالقول وهم يعالجون الجريح في مسيرة العودة (علي بنات) الذي أصيب بقنبلة غاز في ركبته وسألوه كيف تطابق اسمه مع اسم (المليونير) فأجابهم أنه سمع عنه وتابع قصته على الإنترنت .
وفيما غرق الجريح علي بنات من مخيم البريج في تفاصيل البحث عن علاج لأسابيع طويلة وهو يعاني الفقر ومرّ بقاطرة إجراءات وهو يحاول دمج إصابته القديمة بالجديدة في تقرير طبّي لعلّ هذا يجدي مستقبلاً كان كل من يسمع بقصته يسأله عن تشابه اسمه مع (المليونير) الراحل .
والحقيقة أن قنبلة الغاز التي تستخدمها الشرطة لتفريق المتظاهرين وأحداث الشغب في أي مكان في العالم أضحت وسيلة قتل وإصابات بجراح خطيرة مثل الكسور ونوبات التشنّج التي أدت لشلل وتفاصيل طبية أخرى .
واعتماداً على سلسلة مقابلات صحفية رأيت ضحايا ومصابين بأنماط مختلفة فعلى سبيل المثال لا الحصر قبل شهرين استشهد الشاب كرم أبو عرفات من خان يونس بعد 3 شهور من إصابته بقنبلة غاز أطلقها جندي إسرائيلي على رأسه فأدت لخروج جزء من دماغه .
وفي مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح قابلت أكثر الحالات غرابةً من أثر الغاز وهي للطفل محمد عماد (15) عام الذي استنشق كمية كبيرة من الغاز ولازال يعاني من نوبات تشنّج منذ شهر كامل وصعوبة في النطق وشلل أطرافه السفلية وتكرر المشهد قبل عدة أيام للطفل غسان بركة (17) عام الذي لازال يعاني من تشنّج مستمر منذ ستة أيام .
وقبل عامين استخدم جنود الاحتلال أدوات عسكرية أخرى لقتل الطفل عبد الرحمن الدبّاغ (16) عام على حدود البريج عندما أطلقوا قنبلة إنارة على وجهه ومنعوا إنقاذه حتى احترق وجهه واستشهد بطريقة تكشف استخدام الجيش لأدوات التفريق في مهمات قتل صريحة
وعملاً بالعرف الطبي الذي تكبله إمكانات غزة المتواضعة بقي جرحى الغاز على حدود غزة ممن تصيبهم نوبات التشّنّج يتناولون مسكنات الألم الشديدة مع ظهور حالات بأعراض أكثر خطورة بين جمعة وأخرى وحتى الآن لم يفلح أحد في تحليل المادة العلمية للغاز الذي يطلقه الاحتلال على المتظاهرين والذي حوّل فيه أدوات التفريق لأدوات قتل صريحة .
ووجدت خلال البحث في الشبكة العنكبوتية أن الغاز المسيّل للدموع عماده مكوّنات كيميائية تُنتج التدفّق الدمعي، تضمّ (غاز CS ومسمّاه العلمي 2-ChlorobenzalMalononitril، ومادّة CN ومسمّاها العلمي Phenacyl chloride، وغاز CR ومسمّاه العلمي Dibenzoxazepine) وهي إن كانت بحالة متبخّرة أو سائلة تؤثّر على حواس الإنسان فتنتاب من يستنشقها نوبة ذرف الدموع، والشعور بحرقان في الجلد، والإحساس المستمرّ بالاختناق، والغثيان والتقيّؤ وأعراض أخرى .
وبما أن (إسرائيل) من أكثر دول العالم تطوراً في تطوير الأدوات والأسلحة الحربية فإن الغاز الذي توزعه بسخاء على الحدود والذي رأيت أنه يطلق من أسلحة مختلفة سواء بالبنادق أو راجمات مثبّتة فوق العربات العسكرية أو من طائرات بدون طيار هو عدة أنواع مختلفة التأثير وقد بدأت الدبابات منذ شهر إطلاق قنابل دخان وغازات تحتوي على شظايا مضيئة يعتقد أنها مادة فوسفور .
ملف الجرحى في قطاع غزة تسلّق سلم المعاناة بسرعة جنونية وهو من أكثر بوابات النزف في مسيرة العودة ومعاناة غزة المحاصرة بعد أن قاربوا (19000) جريح من بينهم مئات الحالات الخطيرة ومصابين بإعاقات مزمنة وهو ملف يحتاج لإدارة حكيمة تعتمد تنظيم حالات التماس مع الاحتلال الذي يتحصّن قناصته في مواقعهم وهم يحولون المتظاهرين لكتيبة معاقين دون أن يصابوا بأذى .
جرحى انتفاضة الحجارة وانتفاضة الأقصى لازالوا بيننا نتلمّس معاناتهم لكن القفزة النوعية في معاناة الجرحى بدأت في أكتوبر (2016) مع اندلاع انتفاضة القدس فنقاط التماس على حدود خان يونس والبريج وغزة خلّفت حالات بتر وإصابات بالغة في الاوعية الدموية والأعصاب خاصّةً في الأقدام.
الخطير هو أن إصابات الغاز غريب الهوية والتركيب على الحدود منذ ستة أشهر يراوح بين معاناة من يستنشقه لحالات اختناق شديدة ونوبات تشنّج أحياناً تطول وتقصر وتخلّف أضراراً كبيرة على الجهاز العصبي وهو نوع من القتل الهادئ الذي يحمل أضراراً على المدى البعيد.
ومن أجل غاز الاحتلال في غزة الذي يكسر العظام ويقتل الأبرياء ويصرع الأطفال نحتاج لـ(مليونير) عربي واحد يصاب بقليل من الأسى لما يجري بغزة ويموّل تحليلاً علمياً لفك شيفرة الغاز القاتل في غزة ومعرفة المواد التي تخترق أجسادنا خلال جريمة مؤكدة تعتمد الموت الهادئ .