نتيجة لنهج السلطة التنفيذية برام الله، القائم على الاستحواذ والتعدي على السلطات الأخرى، أودع نحو 30 قاضيا بالمحكمة العليا الفلسطينية برام الله، استقالة جماعية لدى رئيس جمعية نادي القضاة المستشار أسامة الكيلاني، على أن تقدم للمجلس الأعلى للقضاء إذا ما تم دخول مشروع تعديل قانون السلطة القضائية حيز التنفيذ.
وجاء هذا الإعلان عن تقديم الاستقالات، بعد التداعي لاجتماع عقدته مجموعة من القضاة، على إثر تسرب معلومات عن وجود تعديل لقانون السلطة القضائية، وكان من بين هذه التعديلات "تشكيل لجنة من خارج الجهاز القضائي لإصلاح عمل القضاء"!
وتأتي الاستقالة الجماعية للقضاة في ظل التحذير من مغبة الإقدام على ارتكاب مذبحة في آخر قلاع الديمقراطية في فلسطين، وأن يُحاك للسلطة القضائية بليل ما يسمح بهيمنة السلطة التنفيذية عليها والتدخل في شؤونها، مما يمهد لانتهاك صارخ آخر أكثر قسوة، يتم فيه ضرب كل المبادئ الدستورية التي تضمن الفصل بين السلطات واستقلال السلطة القضائية عرض الحائط. خطوات متلاحقة
وفي التفاصيل، فقد أكدت جمعية نادي القضاة الفلسطينيين، بأن قضاة المحكمة العليا الفلسطينية تقدموا باستقالة جماعية، حيث ذكرت في منشور لها على الفيسبوك، أنه وفي اجتماع عقده قضاة المحكمة العليا الفلسطينية في 5 ايلول 2018 في رام الله طالب القضاة رئيس السلطة بعدم الالتفات الى توصيات لجنة تطوير القضاء لمساسها باستقلال القضاء ومبدأ الفصل بين السلطات ولكونها وسيلة سهلة لإحكام السيطرة على القضاء من قبل السلطة التنفيذية.
ويرى ساسة ومراقبون بأن استقالة رجال القضاء في الضفة برقية عاجلة، تشير الى أن "تيار عباس" وأدواته المتعددة في عجلة من أمرهم لتدمير بقايا القانون، وكأن الموعد لرحيل "كبيرهم" اقترب كثيراً..!.
وذكر النائب فرج الغول رئيس اللجنة القانونية في المجلس التشريعي، أن هناك خطوات متلاحقة تقوم بها مؤسسة الرئاسة منذ فترة طويلة للسيطرة على المؤسسات المستقلة ومن بينها سلطة القضاء، مؤكداً أن "التدخلات الأخيرة مقصودة ومخالفة للقانون الأساسي والدستور، وأن أي تعديلات بدون مرورها على المجلس التشريعي تعد باطلة وغير قانونية ولا دستورية".
وأشار الغول في حديثه لـ"الرسالة" إلى أن مؤسسة الرئاسة عمدت إلى اتخاذ عدة خطوات للتدخل في القضاء تدخلاً سافراً والتعدي عليه بصورة كبيرة جداً وعلى صلاحياته، وكذلك على صلاحيات المجلس التشريعي، بل وعلى الحكومة التي باتت تابعة بصورة مباشرة للرئاسة.
ويؤيد الغول القضاة في الضفة بالاعتراض على هذه التدخلات السافرة في القضاء والتي شأنها أن تؤدي إلى عدم استقلاله، وأن يصبح قضاءً مأموراً من جهات معينة، لا يطبق أحكامه وفق القانون الأساسي والدستور.
وقال الغول "للقضاة الحق في مواجهة هذه التعديلات غير القانونية وغير الدستورية، والتي لم تمر على المجلس التشريعي، هذا من جانب، وكان الأولى بالقضاة أن يحتجوا على كل الإجراءات السابقة في التعيينات والتدخلات السافرة في القضاء والحكومة، من جانب أخر".
وأضاف الغول "ما يحدث في الضفة هو إملاءات من قبل الرئاسة على الكثير من القضاة مما سيفقد القضاء الفلسطيني استقلاله"، معرباً عن اعتقاده بأن القضاة على قدر من المسئولية ويفهمون دورهم جيداً ويعون أنهم مستقلون ولا يجوز لأحد التدخل في عملهم، حيث لا سلطان على القضاة إلا ضمائرهم "، على حد تعبيره.
صنيع "السلطة التنفيذية"
من جهته، يرى عصام عابدين من مؤسسة الحق، أن النزيف الحاصل والتدهور المستمر في القضاء من صنيع السلطة التنفيذية، ووحدها من تتحمل المسئولية عن هذا التدهور وبأشكال عديدة.
وأوضح عابدين في حديثه لـ"الرسالة" أن السلطة التنفيذية تملك نفوذاً واسعاً على السلطة القضائية، مستدلاً على ذلك بأن جميع المجالس القضائية ورؤساءها في المحاكم في عهد السلطة الفلسطينية منذ تاريخ إنشائها حتى الآن "شكلتها السلطة خلافاً للقانون".
وأردف بأن السلطة التنفيذية بدلاً من أن تعترف بأن القضاء يريد إصلاحاً، فقد قامت مؤخراً بتشكيل لجنة بمصطلح مُلتبس من قبل رئيس السلطة سُميت لجنة تطوير قطاع العدالة، مبيناً أن الإشكالية التي وقعت وأدت إلى استقالات جماعية للقضاة هي توصيات هذه اللجنة، والتي من بينها تشكيل لجنة من قبل السلطة التنفيذية لتقييم القضاة.
وتساءل عابدين "إذا كان الخلل كله يعود إلى السلطة التنفيذية فكيف ستكون الأخيرة هي من سيصلح القضاء!؟ـ معلقاً "هذا بتقديري يؤدي إلى المزيد من التدهور في القضاء".
وشدد عابدين على أن إصلاح القضاء يحتاج إلى إرادة جادة في ظل أوضاع متدهورة للقضاء، عاداً أن الإصلاح القضائي كلٌ لا يتجزأ ويحتاج إلى وحدة في الضفة وغزة كمقدمة لتوحيد المؤسسات الفلسطينية كافة.
أما الكاتب الفلسطيني أحمد النجار، فقد اعتبر أن المشروع المعدل الذي احتج عليه القضاة، يمثل خلاصة لما رشحت عنه اللجنة الرئاسية من توصيات لاخضاع القضاء، عاداً تسمية اللجنة بلجنة تطوير القضاء، خدعة مضمونها الهيمنة على الجهاز القضائي باسم التطوير والإصلاح، علماً أن التطوير يجب أن يكون في ظل أحكام الدستور والقانون وإلا كان تدميراً وافساداً، على حد تعبيره.
وتساءل النجار "هل للسلطة التنفيذية صلاحية قانونية تخولها بتعديل قانون القضائية الفلسطيني رقم (1) لعام 2002م؟"، مؤكداً أنه لا يجوز تعديل قانون السلطة القضائية إلا من قبل المجلس التشريعي الفلسطيني.
وشدد النجار أنه ينبغي على القوانين كافة أن لا تخالف الدستور حتى لو تعلق الأمر بالقرار بقانون، عاداً أن توصيات تلك اللجنة الرئاسية غايتها فرض طوق حديدي صارم على السلطة القضائية لصالح السلطة التنفيذية التي أضحت تجمع بيدها بالإضافة للتنفيذ سلطة القضاء والتشريع، في مشهد سوداوي يعود بنا إلى عصور الظلام الأوروبية، على حد تعبيره.