مع الحديث عن إمكان قيام إدارة ترامب بإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، إضافة إلى الخطوات السابقة التي اتخذتها بخصوص الاعتراف بالقدس كعاصمة موحدة تحت السيادة الإسرائيلية (أواخر العام الماضي)، ووقفها دعم منظمة «أونروا» المعنية بغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، وتغاضيها عن الاستيطان في الضفة، تكون الولايات المتحدة أطاحت دفعة واحدة بالمفاوضات المتعلقة بقضايا الحل النهائي (القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود)، بإخراجها هذه القضايا من دائرة التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين، هذا أولاً.
ثانياً، إن الخطوة التي تفيد بإغلاق منظمة التحرير تعني أيضاً أن الولايات المتحدة سحبت اعترافها بمنظمة التحرير، أي إن الغرض هنا يفضي إلى تصفية تلك المنظمة، التي تعتبر بمثابة الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، وهي كيانه السياسي والمعنوي، والمعبّر عن وحدة قضيته، ما يجعل السلطة الفلسطينية بمثابة الكيان السياسي الوحيد المعترف به، علماً أنه كيان يقع في نطاق السيطرة من مختلف النواحي.
ثالثاً، إن مجمل الخطوات التي اعتمدتها إدارة ترامب يفهم منها أن الولايات المتحدة لم تعد معنيّة بعملية التسوية، ولا على أي صعيد، وإنها أضحت معنيّة فقط بتطبيع علاقات إسرائيل مع الدول العربية، وأنها كشفت، في كل ذلك، عن حقيقة انحيازها لإسرائيل، وإطاحتها بالصورة المتخيّلة، والمخادعة، عنها كراع نزيه، أو كوسيط محايد، أو كضامن موثوق، فيما عرف بـ «عملية السلام».
وفي الحقيقة فإنها في كل تلك الخطوات والمواقف تكون الولايات المتحدة الأميركية انتظرت ربع قرن لإعلانها التملّص من اتفاق أوسلو (1993)، على رغم الاجحافات المتضمّنة فيه بحق الفلسطينيين، وذلك مع إدارة دونالد ترامب، وفي ظل الأوضاع الدولية والإقليمية والعربية والفلسطينية الراهنة، المضطربة والمعقدة، علماً أن إسرائيل كانت دفنت ذلك الاتفاق في شكل مبكّر، جملة وتفصيلاً، منذ العام 1999، إن على صعيد الحل الانتقالي (ومدته خمسة أعوام)، أو على صعيد المفاوضات حول قضايا الحل النهائي، وهو ما تبيّن في مفاوضات كامب ديفيد 2 (2000).
ويستنتج من ذلك أن اتفاق أوسلو جاء، فقط، لمجرد تجويف الحركة الوطنية الفلسطينية، وتحويلها إلى سلطة تحت الاحتلال، على السكان وليس على الأرض والموارد والمعابر، بمرتبة أقل من دولة وأكثر من حكم ذاتي، بغرض تحرير إسرائيل من عبء السيطرة الأمنية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية على الفلسطينيين، والتخلص مما يسمى «القنبلة الديموغرافية»، وتعزيز مكانتها كدولة يهودية، للتخفّف من وضعها، أو من صورتها، كدولة استعمارية عنصرية، ما يسهّل عليها، أيضاً، تطبيع علاقاتها مع العالم العربي.
هكذا، فإن ما يحصل، من قبل الولايات المتحدة ، يضع مجمل التوهمات والمراهنات التي عقدتها القيادة الفلسطينية عليها موضع التساؤل والمساءلة، أي إن الأمر لم يعد يتعلق باتفاقات أوسلو المجحفة والجزئية والمهينة، فقط، وإنما هو يتعلق، أيضاً، بمساءلة تلك القيادة عن معنى مراهناتها على الولايات المتحدة، المعروفة تاريخياً بانحيازها لإسرائيل ودعمها لها وتغطيتها لسياساتها الاحتلالية والاستيطانية ونظمها القانونية العنصرية ضد الفلسطينيين، وسيطرتها عليهم بالقوة، وضمانها لتفوقها العسكري والاقتصادي في المنطقة.
بيد أن مسؤولية القيادة الفلسطينية المضاعفة هنا ناجمة عن عقدها اتفاق أوسلو (1993)، على رغم معرفتها بوجود قانون سنّه الكونغرس الأميركي (1987) يعتبر منظمة التحرير الفلسطينية منظمة إرهابية، ضمن قانون «محاربة الإرهاب»، علماً أن هذا القانون يحرّم، ضمن إجراءات أخرى، فتح مكتب للمنظمة في الأراضي الأميركية.
والمشكلة أن القيادة الفلسطينية التي وقّعت اتفاق أوسلو في البيت الأبيض، في غمرة مراهناتها المتسرعة على ذلك الاتفاق، لم تبذل المحاولات اللازمة للمساومة وقتها، بحضّ الإدارة الأميركية على التدخّل لدى الكونغرس لإلغاء هذا القانون، بدلاً من جعله سلاحاً للتوظيف بيد الرئيس الأميركي، الذي يقوم بالطلب من الكونغرس بتعليقه كل ستة أشهر.
ولعل أحجام، أو لامبالاة، القيادة الفلسطينية تقديم طلب هو على هذه الدرجة من الأهمية قبل توقيعها اتفاق أوسلو، يحيلنا إلى التذكير بأن الإدارة الأميركية كانت طرحت شروطاً ثلاثة على منظمة التحرير للبدء بحوار أميركي- فلسطيني، من خلال السفير الأميركي روبرت بيلليترو (تونس، أواخر 1988)، أولها، الموافقة على القرار 242، وثانيها، وقف العمليات العسكرية ضد الكيان الإسرائيلي، ونبذ «الإرهاب»، وثالثها، الاعتراف بإسرائيل.
عموماً، وكما شهدنا، في ما بعد، فإن قيام دولة فلسطين بتقديم طلب لمحاكمة إسرائيل في محكمة الجنايات الدولية (2015)، على حربها المدمرة في غزة (2014)، جعل الإدارة الأميركية تفعّل قانون «مكافحة الإرهاب»، بتوجيهها التهديد للقيادة الفلسطينية بهذا الشأن، مع تذكيرها بضرورة الالتزام بعملية السلام، وعدم اللجوء إلى تقديم شكاوى ضد إسرائيل في المنظمات الدولية، واستئناف المفاوضات معها من دون قيد أو شرط، وهي الأمور التي لم تستجب لها القيادة الفلسطينية، بل صعّدتها برفض استقبال أي مسؤول أميركي، ومناهضتها ما بات يعرف بمشروع «صفقة القرن»، ما أدى إلى نشوب أزمة مكتب المنظمة في واشنطن أواخر العام الماضي، والذي يتوقع أن تنتهي فصولها بإغلاق المكتب نهائياً، مع التذكير بأن افتتاحه في العام 1994 جرى فقط لتسهيل التواصل بين المنظمة والإدارة الأميركية، علماً أن الولايات المتحدة لم تعترف بدولة فلسطين، ولو بصفة مراقب، في الأمم المتحدة (2012).
ثمة أربعة مسائل يجدر التنويه بها هنا، في علاقة الولايات المتحدة بمنظمة التحرير.
أولها، أن أميركا هي الحليف الاستراتيجي لإسرائيل وهي ضامن أمنها وتفوقها النوعي في المنطقة، لذا فهي أكثر طرف يمكن أن يتعامل مع إسرائيل وأن يفرض عليها مواقف معيّنة إزاء الفلسطينيين.
وثانيها، أن الولايات المتحدة هي الداعم لعملية التسوية الإسرائيلية- الفلسطينية، فمن دون قوة الدفع الأميركية ما كان يمكن عقد اتفاق أوسلو، ولا إقامة سلطة فلسطينية، في الأراضي المحتلة عام 1967.
وثالثها، أن السلطة الفلسطينية، تبعاً لما سبق، إنما تستمد جزءاً كبيراً من كيانيتها ونفوذها السياسي، إزاء إسرائيل وحتى إزاء الدول العربية، من علاقاتها مع الولايات المتحدة، لا سيما بعد تحولها من حركة تحرر إلى سلطة، وبعد مساهمتها بتهميش منظمة التحرير، ونقل ثقل الحركة الوطنية الفلسطينية إلى الداخل، أي تحت الاحتلال، فهذا ما تبقى لها لا سيما في الظروف العربية الراهنة، التي وجدت فيها نفسها وحيدة في مواجهة إسرائيل من دون أي ظهير أو عمق عربي.
ورابعها، أن الولايات المتحدة هي الطرف الأهم، والأكبر، الذي يؤمّن الموارد المالية اللازمة للسلطة، لموازنتها ورواتب موظفيها، كما لوكالة الغوث (أونروا). والحديث يدور هنا عن مبلغ يقدّر بحوالى بليون دولار سنوياً، ضمنهم 400- 600 مليون دولار للسلطة، و360 مليون دولار لـ «أونروا»، و200 مليون دولار لدعم مشروعات تعاون مشتركة ومنظمات مجتمع مدني، ما يعني أنها الممول الأول، وهذا يجعلها في مكانة تستطيع فيها الضغط على الفلسطينيين، وعلى سلطتهم، التي لديها ما يقارب 200 ألف موظف، في مختلف القطاعات، وهو ما يشكل ربع موازنة السلطة، علماً أن نصف تلك الموازنة يأتي من موارد «المقاصة» التي تجبيها إسرائيل عن السلع الواردة إلى مناطق السلطة الفلسطينية، أي أن ثلاثة أرباع الموازنة تأتي من هذين الطرفين، وهذه نقطة ضعف أساسية للقيادة الفلسطينية.
باختصار، في العلاقة بين القيادة الفلسطينية والولايات المتحدة، يمكن أن تطوى صفحات عديدة، ضمنها صفحة المنظمة، ومصير عملية التسوية، ناهيك عن فتح صفحة جديدة في التعامل مع القضية الفلسطينية دولياً وعربياً، والمشكلة أن كل ذلك يحصل في ظروف دولية وإقليمية وعربية، بل وفلسطينية، ليست في مصلحة الفلسطينيين، التي استمرأت قيادتهم عملية التسوية، وخيار، أو وهم، الدولة المستقلة، وتهميش منظمة التحرير، والتحوّل إلى سلطة، في جزء من أرض على جزء من شعب، في جزء من حقوق.
الحياة اللندنية