قائد الطوفان قائد الطوفان

مكتوب: الهجرة النبوية بوابة الدولة والحضارة

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

أ. عبد القادر خليل الشطلي

يقول الله عز وجل في محكم التنزيل: ﴿ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾.

ها نحن اليوم نودع عاماً هجرياً، ونستقبل عاماً هجرياً جديداً وقد جرت عادة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يحتفلوا مع بداية كل عام هجري جديد بذكرى الهجرة النبوية مذكرين المسلمين بما حوته هذه الحادثة العظيمة من أحداث عظام، وما انطوت عليه من دروس وعبر وعظات لا غنى للمسلمين عنها في كل زمان ومكان. إن الهجرة النبوية هذا الحدث التاريخي العظيم – تمثل نقلة نوعية في تاريخ الإسلام، فهي نقلة من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدعوة والدولة، ومن مرحلة الضعف إلى مرحلة القوة، ومن مرحلة الاستضعاف للجماعة المسلمة الأولى والاستقواء على الدعاة وتعذيبهم واضطهادهم إلى مرحلة المواجهة مع أعداء الإسلام جميعاً من يهود ومشركين ومنافقين كل حسب طبيعة الحدث وحسب طبيعة المواجهة.

إن الإسلام كما يقول الدكتور والعلامة – عماد الدين خليل – في كتابه دراسة في السيرة: ( جاء ليعبر عن وجوده في عالمنا من خلال دوائر ثلاث تتداخل في بعضها البعض، ثم تتجه صوب الخارج لتبلغ آماداً أوسع وأرحب: دائرة الإنسان، فالدولة، فالحضارة ).

لقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وطيلة ثلاثة عشر عاماً من عمر الدعوة أن يفرغ من الدائرة الأولى، ألا وهي دائرة الإنسان، الإنسان العقائدي والرباني، الذي يعيش لله ويتحرك من أجل لله ومن أجل دين الله، الإنسان العقائدي الذي لا يتنازل عن دينه وعقيدته من أجل متاع دنيوي زائل، يثبت على مبادئه ويثبت على دينه وعقيدته ولديه الاستعداد لئن يضحي بكل شيء من أجل دينه وعقيدته، لديه الاستعداد لئن يضحي بنفسه وروحه وماله وأهله ووطنه وعشيرته من أجل الله ومن أجل الدين ومن أجل العقيدة ومن أجل المنهج.

إن صناعة الإنسان وبناء الإنسان أهم بكثير من إقامة الدولة، لأن الإنسان هو الذي يقيم الدولة ويصنع الحضارة، لذا كانت هذه المهمة أهم مرحلة في تاريخ الدعوة الإسلامية واستغرقت هذه العملية – صناعة الإنسان – ثلاثة عشر عاماً من عمر الدعوة الإسلامية – واستطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن ينشأ – على حد تعبير – الشهيد سيد قطب – في معالمه – جيلاً قرآنياً فريداً، استطاع هذا الجيل بعون الله وقوته – أن يقيم فيما بعد الدولة في المدينة المنورة، وأن يحافظ على هذه الدولة وبحميها من المناوئين لها.

قامت الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة وسط بحر متلاطم من الأعداء الذين يحيطون بها من كل صوب واتجاه والكل يتربص بهذه الدولة الفتية الدوائر ويفكر في طريقة للانقضاض عليها والإطاحة بها.

اليهود والمنافقون من الداخل والمشركون في الجزيرة العربية وكفار مكة من الخارج، واستطاعت هذه الدولة أن تخوض معارك عدة في الداخل والخارج وتخرج من كل معركة وكل مواجهة مع أعدائها أقوى شكيمة وأصلب عوداً واستطاعت بفضل الله عز وجل – أن تصبح رقماً صعباً وقوة مهابة الجانب من الجميع وأن تفرض سيطرتها على الجزيرة العربية كلها وأن تخوض معارك طاحنة مع الفرس والروم وتهزم الجميع وتخرج من كل معاركها مع الأعداء – بفضل الله وعونه – منتصرة لتصبح القوة الوحيدة في جزيرة العرب، لتنتقل هذه الدولة إلى مرحلة جديدة، إلى مرحلة الخلافة المترامية الأطراف وتنتشر الفتوحات الإسلامية في الشرق والغرب، والشمال والجنوب ويتمكن المسلمون بفضل الله عز وجل أولاً، وبجدهم واجتهادهم وانكبابهم على العلم وعلوم الحضارات السابقة، الفارسية والرومانية واليونانية والهندية وغيرها أن ينتقلوا إلى الدائرة الثالثة، دائرة الحضارة، ليصنعوا لهذه الأمة حضارة عظيمة وعريقة لا زلنا نفخر بها إلى يومنا هذا، ولتتبوأ الأمة الإسلامية مكان الصدارة بين الأمم والشعوب، وتحتل مكان الأستاذية لكافة شعوب العالم آنذاك، ولقد وقف كبار علماء التاريخ والحضارة، من أمثال البروفوسور (جورج سارتن ) موقف إعجاب وإجلال لهذه الحضارة العظيمة حيث يقول في موسوعته الشهيرة (مقدمة في تاريخ العلم): (إن إبداع حضارة موسوعية كالحضارة الإسلامية في أقل من قرنيين من الزمان كالحضارة الإسلامية، أمر يمكن وصفه ولكن لا سبيل لتفسيره تفسيراً كاملاً ).

وهكذا استطاع المسلمون أن يكملوا المشوار بعد حبيبهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يصلوا إلى الدائرة الثالثة، دائرة الحضارة، وهكذا كانت الهجرة النبوية منطلقاً وبوابة للدولة والحضارة.

البث المباشر