شكلت عمليات القسام النوعية باقتحام المواقع والمستوطنات الاسرائيلية هاجساً للاحتلال الإسرائيلي منذ سنوات وحتى يومنا هذا، بعد أن كبدته خسائر فادحة، وأبدع خلالها المجاهدون أيما إبداع، وما زالت ذكرى أبطالها تفوح عزة وكرامة.
في مثل هذا اليوم 2/10/2001م، سجلت كتائب القسام ضربةً نوعيةً قويةً لنظرية الأمن الإسرائيلي وأفشلتها تماماً حقيقة لا خيالاً في عمليةٍ نوعيةٍ بطوليةٍ لم تحدث من قبل، نفذها الاستشهاديان القساميان إبراهيم نزار ريان وعبد الله عودة شعبان بعد اقتحامهما مغتصبة "ايلي سيناي" المحررة شمال قطاع غزة وتمكنهما من قتل 3 صهاينة وإصابة 17 آخرين.
وبعد 18 عاماً على عملية "إيلي سيناي" يكشف موقع القسام لأول مرة اللحظات الأخيرة للاستشهاديين القساميين ريان وشعبان قبل تنفيذ العملية، ورسالة أحدهما للأسير القسامي القائد حسن سلامة.
قلوب تعلقت بالجهاد
لم يكن متوقعاً أن تكون آخر وصايا الشهيد إبراهيم نزار ريان -رحمه الله – أحد منفذي عملية "ايلي سيناي" مثل تلك الوصية! شابٌ مقبلٌ على الموت يفصل بينه وبين لقاء العدو دقائق معدودة، ربما كان سواه يفكر بعائلته في مثل تلك اللحظات، لكن هذا الشاب تعلق قلبه بالجهاد والمجاهدين في سبيل الله .. فدهش من حوله بكلماته الأخيرة !
أحد المجاهدين الذي رافق الشهيد القسامي إبراهيم نزار ريان وأوصله لمغتصبة "إيلي سيناي" قبيل اقتحامه وتنفيذه العملية البطولية الشهيرة بتاريخ 2001-10-2 ، يروي لموقع القسام آخر ساعات الشهيدين في هذه الحياة، ووصية أحدهما التي حملها في صدره طيلة السنوات الماضية، قائلاً:-
عشنا مع الشهيدين إبراهيم نزار ريان وعبد الله عودة شعبان آخر يوم في حياتهما، وقد رافقناهما وكنا بصحبتهما آخر ثلاثين ساعة من حياتهما، وقد كمنا يومها طيلة النهار في إحدى البيارات المطلة على مغتصبة "إيلي سيناي" حتى جاء وقت الغروب، ووصلتنا الأوامر من القيادة بتنفيذ العملية.
لقد كانت مهمتنا، تأمين الطريق وإيصال الشهيدين لأقرب نقطة من المغتصبة، والتي تبعد 200 متر عن السلك الفاصل الخاص بحمايتها، وتحديد المنطقة التي سيتم منها فتح الثغرة في السلك والدخول إلى المغتصبة، بالإضافة إلى المراقبة المباشرة للعدو ورصد تحركاته وتقدير الموقف الميداني قبيل تنفيذ الاقتحام.
"خذ من دمائنا حتى ترضى"
جاء أمر القيادة بالتجهز والاستعداد للتنفيذ قبل المغرب بساعة، وحسب الخطة كانت الأوامر أن نباشر التحرك تجاه العدو في العتمة بين المغرب والعشاء.
وفجأةً.. رصدنا تحركات نشطة لمركبات العدو على غير العادة، الأمر الذي يتطلب منا وقف التنفيذ في حال استمر العدو بذلك، وقد أبلغنا الشهيدين بصورة الموقف وأن هناك احتمالية لإلغاء التنفيذ، فغضب الشهيدان غضباً شديداً وأصرّا علينا رجاءً وإلحاحاً عدم إبلاغ القيادة وعدم الإلغاء!
ثم انطلق الشهيدان إبراهيم وعبد الله كلٌ منهما تحت شجرة لصلاة ركعتين سنة الشهادة في سبيل الله، ورفعا أيديهما للدعاء والإلحاح على الله عز وجل بأن ييسر لهما مهمتهما، ويتقبل أنفسهما رخيصة في سبيله.. ونحن نراقب تحركات العدو عن كثبٍ وبحذرٍ شديد.
زاد الإلحاح بالدعاء من الشهيدين وارتفع صوت بكائهما ونحيبهما، حتى خشينا أن يشعر بنا العدو من شدة النحيب والبكاء، فكان أكثر ما تردد على لسانهما حينها: "يا رب خذ من دمنا اليوم حتى ترضى.. اللهم خذ من دمنا اليوم حتى ترضى".
الإفطار الأخير
اقترب موعد أذان المغرب وقد هدأت نفوسنا جميعاً وزال القلق ونزلت علينا سكينة وطمأنينة غريبة، وإذ بالعدو يعود لروتينه الطبيعي، ويعود الهدوء للمنطقة.
كنا صائمين ومعنا القليل من الطعام، فبادرنا بتجهيز سفرة صغيرة مع عصير برتقال وتمر وماء، لنفطر سوياً ثم نلبس الزي العسكري الزراعي وننطلق لتنفيذ العملية، وعند أذان المغرب وزّعنا العصير والتمر على الإخوة، وإذ بالأخوين الشهيدين يرفضان تناول الإفطار؛ تعجبنا متسائلين: لماذا؟!!
يضحك الشهيدان ويجيب إبراهيم مستبشراً ضاحكًا: "انتوا افطروا في الدنيا؛ واحنا حنفطر بإذن الله في الجنة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"، في هذه اللحظة تأثرنا كثيراً وأصابتنا قشعريرة.. وأصبحنا نبكي على حالنا، أين سنكون نحن بعد دقائق وأين سيكونون هم؟! كيف سنعود لدنيانا وروتين حياتنا؛ بينما هم سيذهبون بعد لحظات للقاء الله ويصعدون إلى العلياء وتُختم حياتهم بشهادة في سبيل الله!
وفي لحظات خشوعٍ وصمت بادر الشهيد إبراهيم قائلاً: "سنفطر معكم بالعصير والتمر وسنكمل إفطارنا مع رسول الله في الجنة، وسنكون شفعاءكم بإذن الله".
رسالة للقائد حسن سلامة!
وبعد تناول التمر والعصير، استأذن الشهيد إبراهيم ريان ليتحدث معي على انفراد، فابتعدنا قليلاً ووقفنا تحت شجرة، وإذ به يقول لي:
"بدي أحمّل معك هذه الأمانة" فقلت له: "تفضل"،
قال: "أريد منك أن توصل سلامي للأسير حسن سلامة".
فضحكتُ من قلبي قائلاً له باستهجان: "وما الذي يوصلني لحسن سلامة؟!"
قال: "بإذن الله سيخرج وستصله رسالتي".
حدثتني نفسي حينها أن الآن ليس وقت حديث الخواطر ونقل الرسائل، فقلت له باستعجال وذهني منشغل في تنفيذ المهمة الموكلة إليّ: "و ما هي رسالتك للأسير حسن؟"
قال لي بلُغة الواثق أنّ الرسالة ستصل لحسن:
"بلّغ حسن أنني كنت أتمنى أن ألتقيه في الدنيا وأعانقه بحرارة، بلّغه أنني أُحبه في الله، وأنّي مشتاق له جداً، لكن لقاء الله أعز وأغلى، بلّغه بأني تأثرت به كثيراً، وأنه كان له الفضل والأثر الكبير في صقل شخصيتي الاستشهادية وذلك بعد أن قرأت كتابه (عمليات الثأر المقدس) وكنت دائماً أن أسأل عنه والدي الشيخ وشباب الكتائب المطاردين، بلّغه أنني سأكون شفيعه عند الله.. وأنني أنتظره في الجنة".
قلت له بصوت خافت: "إن شاء الله"، فنظر إليّ وكأنه فهم أنني غير متفائلٍ بإيصال الرسالة للأسير حسن، فناداني باسمي وأمسك يدي وقبض عليها وقال: "سيخرج حسن إن شاء الله من السجن عزيزاً، وشباب الكتائب لن يتركوا الأسرى؛ وسترى اليوم الذي يحرر فيه الأسرى وسيخرج حسن من الأسر وتحدثه بنفسك وتبلغه رسالتي، أُبشِّرك انَّ رسالتي ستصل وما ذلك على الله بعزيز".
فابتسمت واستبشرت بحديثه ثم تعانقنا وصلينا المغرب وباشرنا تجهيز السلاح والجعب ولبس الزي العسكري، استعداداً للانطلاق لتنفيذ الهجوم.
اللحظات الأخيرة
وأثناء تجهيزنا واستعدادنا جاءنا أحد الإخوة القادة المشرفين على العملية ليشرف بنفسه على الإجراءات المطلوب تنفيذها، حيث قام بتوجيه الاستشهادييْن وإعطاءهما عدة تعليمات، وقد أصرَّ هذا القائد الهُمام أن يرافقنا في مهمة توصيل الإخوة لأقرب نقطة من العدو.
وأثناء جُلوسنا بين يدي هذا القائد نستمع لتعليماته بكل تركيز وانتباه؛ سمعنا أصوات موسيقى ومفرقعاتٍ نارية تنطلق من داخل المغتصبة، فأبلغنا أخونا حينها أنَّ العدو عنده الليلة طقوس واحتفالات بمناسبة عيد العرش اليهودي، فسُعدنا لانشغال العدو بهذه الاحتفالات الأمر الذي سيسهل على الإخوة عملية الاقتحام وتجاوز المخاطر.
ومن أعجب ما سمعنا في هذه الجلسة تعليمات الأخ القائد للأخوين الاستشهاديين بعدم قتل الأطفال أو إيذائهم، وأن ذلك من مبادئ ديننا الإسلامي، وقد أكد عليهما وأخذ منهما عهداً بذلك.
وبعد ختام هذه الجلسة تمنى الأخوان إبراهيم وعبد الله أن يستشهدا وهما بجوار بعضهما البعض، وطلبا منّا أن ندعُو لهما بهذين الدعاءين، أثناء عملية الاشتباك والالتحام مع العدو :"اللهم أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم ارزقهما الشهادة في سبيلك مقبليْن غير مدبريْن مثخنين في الأعداء".
وعند توديع الاستشهاديين الوداع الأخير بعد أن قمنا بتوصيلهما لأقرب نقطة مع العدو والتي لا تبعد 200 متر، ومع آخر عناقٍ لإبراهيم ضغط عليّ بعناقه وهمس في أذني: "لا تنسى رسالتي لحسن"!
انتهى حديث المجاهد لموقع القسام، ومنذ عناقه الأخير لإبراهيم قبل ثمانية عشر عاماً، وهو يحمل هذه الرسالة في صدره وينتظر لحظة إبلاغها للأسير القائد حسن سلامة!
ولولا اليقين الذي حدثه به الشهيد إبراهيم لما استبشر المجاهد بأنه سوف يوصل الرسالة يوماً ما! كيف لا وهو يقين مجاهد تربى على حب الشهادة، ونمى على كتب المجاهدين أمثال حسن سلامة وثأره المقدس! فلا عجب أن تكون همته عظيمةً واستبساله في قتال الصهاينة أعظم، وقد أثلج صدور المؤمنين بعمليته الاستشهادية مع رفيقه عبد الله، وقد استجاب الله دعاءهما فاستشهدا وهما بجانب ببعضهما البعض بعد أن أثخنا في العدو وقتلا العديد من الجنود والمستوطنين الصهاينة.
وها هي تمر الأيام و السنوات .. ولا يزداد المجاهد إلا يقيناً بأن لقاءه بالبطل حسن سلامة قد اقترب .. وأنه سيوصل الأمانة وسينقل وصية إبراهيم، فوحدهم الشهداء يستحقون أن يحيا الأمل على كلماتهم.. وها هو مداد الفداء والعطايا من الشهداء إلى الأسرى، وكأنها رسالة للأحياء على لسان الشهداء بأن لا تنسوا الأسرى مهما كلفكم ذلك من ثمن.