وجه بريء وابتسامة رقيقة، تلك التي رسمت على وجه عماد قبل رحيله وبعده، في لحظة مشت بها قدماه نحو أمل يتجدد جمعة بعد جمعة، رغم كأس الموت الذي لم نعد نمل من تجرعه في سبيل الحرية والعودة.
كان يوم الأحد هذه المرة، يوم الثالث والعشرين من سبتمبر، في يوم كانت تغلي فيه الأرض على الحدود في منطقة ملكة، وبكل الحماسة التي يتمتع بها الشاب كواحد من وحدة الارباك الليلي، حيث كانت وظيفته زرع الرعب في قلب المحتل على الحدود، فتارة يصدر أصوات الضجيج المرعب، وتارة يكون احد الهنود الحمر، وتارة يشعل أضواء الليزر في وجه الغاصب، حتى شكل واحدا من أسباب الارباك الحقيقي للعدو.
ولكن لم تنته الليلة ولم يعد عماد سالما إلى أهله، فحينما طال الجنود ما طالهم من الرعب على الحدود بدأوا كعادتهم بقذف رصاصاتهم بالعتمة بشكل عشوائي حتى أصيب مباشرة في رأسه، وسقط شهيدا على الفور.
لم يكن عماد مجرد شاب عادي، وقد تتعجب من ذلك الشاب الجسور المقدام الذي لا يهاب رصاصة في عتمة، ويكر ويفر مناورا، قد تتعجب إذا علمت انه أيضا قد امتهن مهنة تحمل كل معاني المحبة والرقة، حتى أسماه أصحابه "بائع الفرح"، لأنه كان يمتلك محلا للهدايا والأزهار، فهذا الثائر كان يحب الحياة ما استطاع إليها سبيلا.
ولكنن لا حياة بدون كرامة، وبلا وطن، فهذا الشاب الرقيق في وجه أصحابه وإخوته له وجه آخر وأنياب يكشر عنها في وجه عدوه، فعرفت عنه العائلة جسارته وقوة قلبه التي تختلف عن أقرانه، كما يقول والده " للرسالة" حيث استذكر ابنه الذي تصادف ذكرى مولده الأسبوع القادم وتحديدا يوم الرابع عشر من هذا الشهر وقد تبسم من تلك الذكرى قائلا:
"ابني مواليد 1997، يعني أنه وقبل عام 2005 أي قبل مغادرة الاحتلال لقطاع غزة كان عمره سبع سنوات، حينما وقع في قلبنا شبهة في أحد المنازل المجاورة بأن جنود الاحتلال يختبؤون فيه، ويحضّرون كمينا لشباب المقاومة، فلم يجرؤ أحد على الاقتراب من البيت للتأكد، إلا عماد، فوجئنا به يسير باتجاه البيت دون خوف أو وجل، ويطرق الباب، ويتأكد من صاحب البيت الذي فتح له الباب وأعطاه إشارة تحذيرية لنقلها.
ويضيف: تلك المعلومة التي أوصلها ابني كانت فرصة قوية لنشر الخبر في الجوار والاتصال على الإذاعات المحلية لتحذير المقاومين بأن لا يمروا بجانب ذلك البيت!
داوود اشتيوي الذي يعمل اخصائيا اجتماعيا في معهد الأمل للأيتام، كان قد أعطى ابنه حرية الانتماء والمقاومة، فمن ذا الذي يستطيع منع ابنه من مقاومة المحتل، لذلك فإنه توقع عودة ابنه شهيدا ذات يوم، ولم يكن يتدخل وفق قوله في رأيه أو نشاطه، قائلا: نحتسبه شهيدا بإذن الله.
ويضيف: لقد درس ابني نظم المعلومات الإدارية في الكلية الجامعية، ولم يتوفق في الحصول على عمل، ففكر مع صديق له بأن يفتح مشروعه الصغير لبيع التحف والهدايا بالقرب من جامعة غزة، فكان مشروعه ناجحا واضطر لتأجيل عامه الأخير في الدبلوم، لتمكين مشروعه أكثر، ولكن أراد الله له طريقا آخر.
ورغم ما يحمله الشاب من ملامح هادئة ورقيقة إلا أن والده كان يتعجب من قوة قلبه في الحق، فيستذكر لنا موقفا آخر قائلا: في الحرب الأولى على غزة، لم يكن عماد قد تجاوز الثانية عشرة حينما أرسلناه إلى حارة السموني خلال القصف المتواصل عليها، وقد كان ابن عمي يسكن ملاصقا لهم، فغمرنا القلق عليه".
وتابع حكايته:" في ظل القصف وانقطاع وسائل التواصل، فوجئنا بعماد يذهب وحده تحت القصف والخوف، ليطمئن على عائلة ابن عمي ويعود لنا بخبر يريحنا، مضيفا: كان جسورا بشكل لافت، وكأنه" صاحب قلب ميت" كما يقولون!
أجل، بائع الهدايا يمكن أن يقدم لك باقة من الأزهار نهارا، ويلف الكوفية على وجهه ليلا، ويخترق العتمة الحالكة ليقاوم المحتل بمقلاع هو كل ما يملك، لأنه يثق تماما بأن المقلاع ينتصر إذا كان هناك يقين بالنصر.