كل شيء في حكاية استشهاد إبراهيم العرّوقي (78) عام مثير للاستغراب، الناس يصابون بجراح قرب السلك الفاصل إلا هو قتله الاحتلال على مسافة كيلومترين.
وكان العرّوقي استشهد برصاص الاحتلال الثقيل بعد أداء صلاة العصر ومحاولته التوجّه لزيارة أحد المرضى فعاجله الرصاص قرب منزله في وقت كانت رشاشات الاحتلال تطلق النار بشكل عشوائي على طول الحدود.
وتوّج العرّوقي الذي اشتهر بالهدوء وملازمة المسجد معظم ساعات النهار رحلة حياة طويلة حيث نال أمنية ورجاء أخفاه عن الناس وأسرّ به للحجيج بأن يدعوا له بنيل الشهادة وهم على صعيد عرفات.
في مسجد المغازي الكبير قبيل أذان الظهر انشغل المودّعون والمصلون بمصافحة وجه العرّوقي الذي رقد في صمت للمرة الأخيرة الذي وقد بدا المسجد ممتلئا بالمصلين وعلى رأسهم إسماعيل هنية رئيس مكتب حماس السياسي.
ما أثار الدهشة هو أحد أقاربه الذي ودعه على طريقته الخاصّة وقد داوم على فرد لحيته الطويلة بيديه وهو مسجّى في صحن المسجد فيما تناوب الأقارب والجيران على تقبيل وجنته.
يقول محمد نجل الشهيد العرّوقي:"كنا نقف بانتظار سيّارة على بعد 2 كيلو متر وفجأة سمعنا صوت طلقات نارية بعيدة وبعدها سقط على الأرض ثم سمعنا رشقة نارية، حاولنا إسعافه لكنه كان قد فارق الحياة".
يرافق محمد والده في مسيرات العودة كل أسبوع وقد غلب على حديث والده التفاؤل وكرر دائماً على مسمعهم أنه يترقب رحيل المستوطنين وزوال الحدود وعودتهم إلى فلسطين المحتلة بعد زوال الحصار.
وفي منزل العروقي تجمعت سيدات الحيّ وأقارب العروقي لمواساة (أم نوّاف) التي زارها الألم للمرة الثالثة باستشهاد أبنائها، تقول (أم نوّاف):"كل جمعة يتوجه لمسيرة العودة، آخر حوار بيننا قبل رحيله بقليل تقاسمنا سوا كوب شراب، قدمنا أبنائي وحفيدتي شهداء ودعونا الله أنا وهو دائماً حسن الخاتمة".
وتؤكد ابنته إنعام أن والدها لا يفارق مسجده ولا يعود للبيت من صلاة الفجر إلا بعد شروق الشمس وقد أنهى ورد القرآن والتسبيح، أخبرني قبل أيام أنه بأحسن حال.
وتتابع: "المسجد، الحارة، المخيم كلنا فقدناه، حتى آخر لحظات من حياته كان يمضي في الخير، دائماً أوصانا بترك الكلام والاهتمام بالتسبيح وقراءة القرآن وعدم تضييع الوقت".
وكانت "الرسالة" قابلت العروقي في اليوم الأول من مسيرة العودة وكسر الحصار وقد جلس صامتاً فوق مرتفع ترابي يراقب ما يجري على الحدود قرأت حالت من السكينة في قسمات وجهه الذي تزينه لحيته البيضاء الطويلة.
حدثني باقتضاب عن استشهاد ابنه وابنته وحفيدته وكان مقلاّ في شرح حق العودة والاشتياق لبلدته المحتلة التي كان صغيراً في العمر حين تركتها أسرته تحت عدوان الاحتلال.
حمامة المسجد
وقرأت "الرسالة" في كلمات مؤذن مسجد الصحابة الشاب وسيم درويش حزناً خاصّاً على ضيف المسجد الدائم حين رفع أذان الفجر للمرة الأولى دون حضور العروقي فوق سجادته المعتادة وركنه الذي احتله لسنوات.
يقول درويش:" طلب مني مفتاح المسجد لأنه يصل المسجد قبل أذان الفجر بساعة ونصف، يبدأ بالتسبيح والقرآن وبعد الصلاة يكرر الأمر، بين المغرب والعشاء لا يغادر المسجد ولم أشاهده رغم كبر سنّه يصلي جالساً ولو لمرة واحدة".
أما عيد مصلح القيادي في حركة حماس بمخيم المغازي الشهيد العرّوقي فيصف الشهيد بأنه صاحب مكانة عظيمة بين أهله وجيرانه خاصّة مسجد الصحابة.
ويتابع:"توجهنا سويّاً كل جمعة لساحة مسيرة العودة وكان يرفع من عزيمتنا، يقول دائماً وصلت للعمر أقصاه ولا أريد من الحياة إلا الشهادة، أخبرني أن الشباب الثائر على الحدود يقاتل عن بقية الناس".
وفقدت مسيرة العودة الثائر الكبير ذو اللحية البيضاء الطويلة التي تنقّل بين جنباتها تارةً شرق البريج وتارةً في الشمال مثبتاً أن كبر السنّ لا يحول دون رفع الصوت عالياً بحق العودة.