اسمه عفيفي، وعلى وجهه ملامح عفة وخجل، آخر العنقود، وكما يقولون بأنه سكر معقود.
وهكذا كان عفيفي بالنسبة إلى أمه، التي ما فتأت تتحدث عن مناقبه وضحكاته التي ملأت البيت يوما، وقد رحلت الآن بعدما رسمت طريقها جيدا.
تقول أمه: "راجل، ابني من مصغره راجل" وصاحب شخصية قوية، وإذا أراد شيئا حققه، أحلامه صغيره، وقلبه كبير، قنوع وعفيف، كان محبوبا من أخوته وجيرانه في الحارة ومعلميه في المدرسة، لأنه كان دائم التفوق، ولكن في سنته الأخيرة قرر أن يداوم على المشاركة في مسيرات العودة فشغلته عن تقديم امتحانات الثانوية العامة، وكنت أقول له: "أدرس يا عفيفي، أنا خائفة على مستقبلك" وكان يرد: " مستقبلي انا رسمته وحيكون أحلى".
وحينما تسألها كم عمر عفيفي؟! فترد: ثمانية عشر عاما.. وأربعة أشهر.. سيكمل الأربعة أشهر في الرابع والعشرين من أكتوبر، أعرفه بالأيام والساعات، فهذا الذي رحل فاكهة البيت وضحكتها فكيف لا أعرف عمره بالأيام والساعات.
عفيفي عفيفي أحد الشهداء السبعة، ضحايا المجزرة التي اقترفها الاحتلال على الحدود الجمعة الماضي، ليرتفع بارتقائهم عدد شهداء مسيرات العودة إلى مائتين وأربعة شهداء.
ولشدة حب عفيفي للضحك والمزاح تستذكر أمه للرسالة أحد مواقفه قائلة: حينما كان في الصف السادس الابتدائي قال لي: "أنا عنست يمة" فضحكت وضحك والده رحمه الله، وسأله: كيف عنست وانت عمرك 12 سنة، فرد عليه: صديقي اخذوه ليجوزوه وأنا لا يجوزني أحد، أنا سأجمع مصروفي حتى أجمع مهر العروس وستزوجني، موجها كلامه لوالده.
ضحكوا ثلاثتهم في ذلك اليوم، وتضيف: ولكن والده رحل قبل خمسة أعوام، لم ير عفيفي عريسا، فقد زففته أنا وحدي يوم أحضروه، واقتربت من اذنه وزغردت له كما كان يحلم، وكما أوصاني قبل أن يرحل: "إذا قدر لي أن أستشهد فزغردوا لي جميعكم".
نشأ عفيفي عطوفا محبا للطيور حتى أنه كان يتمنى أن يدرس الطب البيطري، وكان يملك وصفات طبية لها ويعالجها، ويعطيها المضادات اللازمة إذا مرضت والحقن المسكنة للأوجاع، وكأنه كان يشعر بما تشعر، بل عرف في المخيم أنه يطبب الطيور.
تقول والدته: وقد كان يربي الحمام فوق سطح المنزل، فيبدأ صباحه بإطلاقه في الهواء ليعود له بإرادته مساء، وكأن هذه الحمامات تحبه وتحن إليه فتفضل العودة على الهرب.
وقد تأكدت أم عفيفي من ذلك يوم استشهاد ابنها حيث وصفت لنا الصورة قائلة: في يوم استشهاده وحينما أخبروني أن جثمانه قد وصل ركضت إلى النافذة لأراه وهو يدخل من أول الطريق محمولا على أكتاف أصحابه، وفوجئت بمشهد سرب الحمام وهو يحلق بشكل دائري فوق نعشه، وحينما أدخلوه إلى غرفتي وودعته وقبلته وزغردت له، عدت إلى النافذة لأراه وهم يخرجونه، فكانت حماماته أيضا تحلق فوق نعشه، وتسير مع النعش أينما ذهب، وكأنه طار معها بعيدا إلى المجهول.
تبتسم أم عفيفي وهي تستذكر جسارة أصغر أبنائها، وتقول: لا شيء في الدنيا يرد قضاء الله فأنا في يوم الرابع عشر من مايو، وحينما ذهب الجميع للمشاركة في مسيرات العودة في ذكرى النكبة خفت على ابني، فربطته في الغرفة وحبسته أنا واخوته، ولكنه غافلني في الأسابيع التالية وذهب، ثم تسأل: ما الذي يمنع قضاء الله، ورغم خوفي عليه كأي أم، إلا أنه كان يثلج صدري بقصص البطولة على الحدود، ولهفته التي تظهر في صوته وهو يحدثني عن مناقبه ومواقفه مع الجنود ويضحك، وقد كان يقول لي:" سألبس كل أسبوع لونا، حتى اجنن الجندي بألواني، فقد كان ينادي علي يوم الجمعة الماضي’، أنت يا أبو الأحمر، هذه المرة سألبس له الأصفر" فيضحكني حديثه الساخر.
وتضيف: وهكذا كانت كل حياته مليئة بالضحك والحكايا التي لا امل لعودتها أبدا.
قرأت الرسالة في عيون أم الشهيد صبرا مختلفا، خاصة حينما ختمت كلامها قائلة: موت عفيفي قتلني، وموت كل الشهداء قتل في قلوب الأمهات شيئا جميلا، ولكن هناك يقين بأن الله لا يغفل عما يفعله الظالمون.