شهدت الضفة خلال السنوات الثلاث الماضية هبة جديدة حملت اسم "انتفاضة القدس" وبدأت مؤشرات متصاعدة على أن هناك نوعية جديدة من العمل المقاوم ولدت في الضفة.
الظروف الموضوعية من الملاحقة الأمنية المزدوجة التي تقوم بها السلطة والاحتلال لأي عمل مقاوم هي من تكون ساهمت بحسب باحثين في ولادة مثل هذا النوع من المقاومة الشعبية البعيدة عن الأعمال المركزية التي تقودها في العادة الفصائل الفلسطينية.
عام 1987 كانت بداية "انتفاضة الحجارة"، وعلى الرغم من بساطة الأدوات التي استخدمت في انتفاضة الحجارة، الى أن ملامح الاستنزاف للجيش الصهيوني وكسر هيبته، كانت النتيجة الأبرز لتلك المرحلة التي أسست لجيل انتفاضة الأقصى التي قادها أسرى محررون من انتفاضة الحجارة، ساهمت تجاربهم في الاعتقال ومواجهة الاحتلال في جعل انتفاضة الأقصى أكثر وجعا وألما للاحتلال لدرجة أنها دفعت الاحتلال لإعلان الانسحاب الأحادي الجانب من أراضي في الضفة وغزة وهي المرة الأولى التي يتراجع فيها الاحتلال عن أرض فلسطينية بفعل المقاومة.
انتفاضة الأقصى.. خيار الاستنزاف الذي يخشاه الاحتلال
في العام 2000 انتقلت المواجهة مع الاحتلال لتأخذ طابعا مختلفا خاصة أنها جاءت على إثر فشل محادثات التسوية ورفض الاحتلال قيام دولة فلسطينية في الضفة المحتلة وقطاع غزة.
كان عنوان الصراع الأكثر تعقيدا هو القدس والمسجد الأقصى، وبادر شارون في حينه ليفرض أمرا واقعا داخل الأقصى وقرر وضع حجر الهيكل المزعوم، فكانت له الجماهير الفلسطينية بالمرصاد، في انتفاضة شهدت عمليات عسكرية نوعية قادتها نخبة من الشباب الفلسطيني المثقف، عانى الاحتلال خلالها من خسائر اقتصادية وبشرية لم يشهدها منذ نشأته.
الضفة عنوان الاستنزاف لما تمثله من خاصرة رخوة للاحتلال دفعت للهجرة العكسية داخل الكيان، كما أصبحت الكثير من مستوطنات الضفة فارغة، واحتاج الاحتلال لإجراءات أمنية جديدة ضد الفلسطينيين من أجل إقناع المستوطنين للبقاء بالضفة عبر تصفيح سياراتهم ضد الرصاص ومنع الفلسطينيين من التنقل عبر طرق الضفة، حتى يشعر المستوطنين بالأمان داخل المجتمع الذي هدمته انتفاضة الأقصى بفعلها المقاوم.
حروب الاستنزاف تقوم في اللحظات التي لا تستطيع فيها الأطراف اشعال مواجهات واسعة لعدم ضمان النتائج، كما أن الهدف منها تعطيل مشاريع للعدو يسعى لتحقيقها أو لإضعاف الروح المعنوية لديه، أو تمنع حالة استقراره وتموضعه، كما أنها تقوم على تخطيط محكم وأعمال نوعية تستهدف عقيدة الخصم الأمنية.
ولعل أهم أوجه أهمية استنزاف الاحتلال في الضفة تتلخص في تقرير لجنة فينوغراد، التي وصفت الضفة بأنها سبب هزيمة الاحتلال في معركة تموز بلبنان، وجاءت نتائج لجنة التحقيق أن عملية الاستنزاف التي تعرضها لها الاحتلال في الضفة والانتشار الواسع الذي تحتاجه قوات الاحتلال فيها، جعل منها غير قادرة على خوض حروب خارجية مما أدى لدفع قوات غير مدربة لميدان المواجهة، وعدم وجود قدرة على إجراء عملية برية واسعة لأنه لا يوجد قوات كافية لعمليات الاستبدال بسبب حاجة الاحتلال لانتشار الجيش في الضفة بشكل واسع لحماية المستوطنين والمستوطنات. هذا التقييم جعل مشروع تصفية المقاومة في الضفة أولوية للمؤسسة الأمنية الصهيونية ضمن مشروع دايتون.
استنزاف حاسم
في العام 2008 كانت ذروة كسر المقاومة في الضفة من خلال الحملة الأمنية التي شنتها السلطة ضمن خطة دايتون، في ذلك العام شنت الحرب "الإسرائيلية على غزة" ما يعرف بحرب الفرقان، كانت الضفة الساحة الأقل سخونة، وهو ما جعل الاحتلال يشعر بأريحية عالية في المواجهة أمام المقاومة في غزة، الدراسات التي أجراها الاحتلال في المقارنة بين حرب العام 2014-2008 وحاجته لنشر قوات في الضفة، كانت معادلة الاستنزاف في الضفة حاضرة خلال حرب 2014 أكثر من عام 2008، وهو ما أثر على قدرة الاحتلال على استبدال القوات، فكانت في العام 2008 كل 3 أيام يتم استبدال القوات بينما في العام 2014 كانت عملية استبدال القوات تتم كل 6 أيام وهو ما أثر على كفاءة القوات القتالية والروح المعنوية، مما اضطر جنود الاحتلال لإطلاق النار على أرجلهم من أجل الخروج من أرض المعركة وعدم المكوث فيها طويلا.
لعبت الضفة أدوارا حاسمة خلال مواجهات المقاومة في غزة ما بعد العام 2007، خاصة أن المواجهة العسكرية مع الاحتلال تركزت في غزة، في عدوان شهر شباط العام 2008 كانت عملية علاء أبو دهيم حاسمة في وقف العملية العسكرية التي كان يشنها الاحتلال على قطاع غزة وكان هدفها المعلن ترحيل سكان الشمال لوقف الصواريخ واستئصال المقاومة.
عملية خلية بيت لقيا في عدوان العام 2012 والتي تمكنت من تفجير عبوة داخل حافلة، فضلا عن المواجهات الواسعة التي شهدتها الضفة خلال عدوان العام 2014 دفع الاحتلال لنشر عدد كبير من قوات الاحتياط بالإضافة للوائين من قوات النخبة.
انتفاضة القدس
قد تكون انتفاضة القدس وجه لما يألفه الاحتلال في مواجهة شعب قرر استنزاف الاحتلال بإرادة شعبية حملت حجم خسائر له وعمليات يومية جعلت منظومته الأمنية في حيرة.
حملت الأعوام الثلاثة من عمر انتفاضة القدس عمليات نوعية في قلب تل أبيب وعمليات نوعية في الضفة، كما أن شكل المواجهة مع الجماهير الفلسطينية في انتفاضة البوابات كان حاضرا فسجلت انتصارا بمنع الاحتلال أن يفرض إجراءاته الأمنية على المسجد الأقصى.
كما أن الأرقام والاحصائيات لحالة المواجهة والاستنزاف تؤكد على أن توسع المشروع الاستيطاني في الضفة سيزيد من مأزق الاحتلال الأمني في المواجهة الأمنية مع المقاومة في غزة، وذلك أن التوسع يعني الحاجة للحماية وأن الاستنزاف وإن كانت أشكاله بسيطة في الوقت الحالي فهو مكلف وفي حال تطوره سيكون الاحتلال أمام مأزق أمني حقيقي.
ويتلخص حجم المأزق الحقيقي للاحتلال في الضفة بما طالب به وزير الدفاع أثناء المباحثات غير المباشرة للتوصل لتهدئة في غزة، بأن توقف المقاومة تحريضها ضد الاحتلال في الضفة، ما يعني أن الحالة في الضفة تؤرق الاحتلال وإن كانت لا تأخذ زخما إعلاميا كما تأخذه الحروب الحقيقية.