"لا تفكري حالك أنثى، صلعة، مشوهة"، مصطلحات قاسية تقذف بها الناجيات من السرطان فشفاؤهن لم يشفع لهن، فهن "ناقصات" كما يراهن البعض، فداخل المجتمع، يحكم على المرأة غالبا لمظهرها فقط، وفق ما عايشته الناجيات من السرطان، فمثلا بمجرد استئصال "ثديها" تصبح مشوهة ينفر منها الزوج والمجتمع.
قبل سنوات حاولت معدة التحقيق البحث عن ناجيات ليروين حكاية العودة إلى الحياة، لكنهن رفضن بشدة خشية "الفضيحة" أو أن يؤثر على بناتهن وقريباتهن اللواتي في سن زواج، فالخبيث بحسب المجتمع مُعد ويورث.
اليوم اختلفت المعايير لدى الناجيات، فأصبحن يعلن عن أنفسهن وباتت صورهن على لوحات اعلانية تجوب شوارع القطاع لدعم النساء في الفحص المبكر، كما أصبحت اخريات يقدمن الدعم النفسي للمصابات كي ينجين ويصلن إلى بر الأمان، رغم نظرة المجتمع التي لاتزال قاسية.
"يا نص أنثى"، هكذا كان يدعو الزوج الخمسينية "زينب"، فلم تشفع لها السنوات الطوال التي آزرته فيها حتى أصبح لديهم بيت وأبناء حصلوا على شهاداتهم الجامعية.
هانت "العشرة عليه" فبات الزوج يمطر زوجته بكلمات تحبطها وتقلل من قيمتها، رغم محاولاتها العديدة التحلي بالقوة، فضغطت كثيرا على نفسها حتى تماثلت للشفاء، لكن الألم النفسي كان أقوى.
تحكي بغصة كبيرة وهي تسترجع تلك الأيام القاسية:" طردني من البيت، بكيت كثيرا حتى كدت أن أجن وأنا أمشي في الشارع غير مستوعبة ما حصل معي، فبدلا من دعمي تم طردني وكأني عالة لا قيمة لي".
وتضيف: وجعي النفسي كان أشد من الجسدي الذي تغلبت عليه، لكن لم أمض أياما كثيرة في البكاء على الماضي حتى استعدت نفسي وبدأت الوقوف من جديد لأكون إنسانة أفيد من حولي.
وتحكي بكسرة خاطر " حينما يأتي زوجي لزيارة البيت أسرع بالتزين له، يحاول أن يتجاهلني لكنه يسرق النظرات إلي، فأدير وجهي إلى الحائط (..) أشعر بالأمان عندما ينظر صوبي لكني أتمنى لو يتقبلني رغم نجاتي فأحتاج دعمه وكلمة عطف منه لأقوى أكثر".
غير مرغوبة
حاجتهن للدعم النفسي كانت أكبر من أي شيء، "الرسالة" أنصتت لمعاناتهن بعد النجاة، وما يواجهن من قسوة المجتمع، وكيفية التغلب عليها والعودة إلى الحياة الطبيعية.
هنا حكاية جديدة لأنصاف اسماعيل - 40 عاما- التي لم تكترث حينما أخبرها الطبيب أن لديها ورما خبيثا في صدرها، لم تفكر بشيء سوى الشفاء وتحدي المرض اللعين الذي يطارد العشرات من النساء، شهور قليلة واظبت فيها على جرعات "الكيماوي" حتى تماثلت للشفاء.
نجاتها من سرطان الثدي، دفعها لتكون واجهة لوحة اعلانات في شوارع غزة لتشجيع النساء على فحص الثدي المبكر، دون خجل فهي تريد أن تكون قدوة لغيرها وأملا لهن في الشفاء.
دون تردد استجابت "أنصاف" وهي ام لفتاتين لتتحدث عن تجربة الشفاء "للرسالة"، بلهجة قوية تحكي:" اكتشفت مرضي حينما كنت مطلقة، وكان هناك حديث مع والد بناتي ليعيدني إلى عصمته(..) وقف معي فترة علاجي، لكن بعد ذلك تراجع عن قرار العودة".
جمعية العون والأمل: "قاتلي كالصغيرات" شعارنا لتعود الناجيات إلى الحياة
لم تصب الناجية بخيبة أمل، لأنها أصبحت مطلقة وغير مرغوبة بسبب مرضها الذين أصيبت به، بل باتت أكثر قوة ولديها رسالة تحاول ايصالها لمساعدة المريضات التي تقابلهن برفقة ذويهن ويكن بحالة يرثى إليها.
كلمات كثيرة واجهت أنصاف مع مجتمعها "إرمي بناتك لتتزوجي"، لم تستجب فهي تدرك أن مجتمعنا تحكمه بعض المعتقدات أن المرأة شكل وليست عقلا وروحا، فباتت تدرك جيدا كيف تتعامل مع الاخرين، وكيف توقف نظرات الشفقة التي تلاحقها رغم نجاتها.
تحكي أنصاف أن والدتها طلبت منها الا تخبر الناس بمرضها خوفا من نظرة المجتمع على بناتها، فالكثير لا يرغب الارتباط بفتاة والدتها مصابة بالسرطان خشية ان ترث مرض والدتها، لكن الناجية واجهت ذلك بتحد وغدت مصدر ثقة لكثير من الأهالي الذين يصحبون بناتهم إلى الجمعيات.
تعلق:" تأتي الفتاة بصحبة ذويها منكسرين "والهم راكبهم" لاسيما حينما تكون الفتاة غير متزوجة (..) اقوم بتوعيتهن من خلال استعراض قصتي لتكون داعما لهن".
أم عين مشوهة
وإلى حكاية ناجية أخرى، تفاصيل حياتها قاسية كما تصف، فهي "أم أحمد" التي تخطت الأربعين من عمرها وتعيل ابناءها الخمسة بعدما ابتعد عنها زوجها.
تحاول "أم أحمد" التحلي بالقوة وهي تروي تفاصيل حكايتها "للرسالة" قائلة:" أصبت بورم في الدماغ وتم استئصاله وكان زوجي بجانبي ويدعمني ويحاول توفير المال لأذهب إلى الارض المحتلة للعلاج (..) انتهت فترة علاجي وعدت إلى بيتي حينئذ صدم زوجي فلم يتوقع عودتي إلا بالكفن".
تغيرت معاملة الزوج لشريكة حياته الناجية، فأصبح يعاملها بقسوة ويتجاهل وجودها، ويسمح لزوجته الثانية أن توبخها وتنعتها بـ"القرعة" و "أم عين" دون احترام لأم اولاده.
كانت تحاول "أم أحمد" الترفع عن الاساءة التي كانت تتعرض لها من زوجها وضرتها رغم الوقع النفسي السيء عليها، وتذكر أنها كانت حينما تفرغ من الأعمال المنزلية تقضي جل وقتها بالقراءة، كما كانت تحمد ربها على الابتلاء.
ورغم نجاتها، إلا أن كثيرا من المقربين منها يتعاملون معها كأنها "فيروس" يصيبهم، فتشعر أنها منبوذة كثيرا وذلك يؤثر على نفسيتها وابنائها الصغار.
وتروي موقفا حدث معها، أن إحدى قريباتها جاءت لتسلم عليها فما كان من زوجها إلا أن هددها بالطلاق في حال لمستها، معلقا " حطلقك لو لمستي المريضة ام عين".
ورغم ما تتعرض له الناجية "أم أحمد" من اهانات إلا أنها تقابل ذلك بالتبسم وتعيش حياتها كما تريد فتتزين في بيتها، وتحاول تأمين قوت أبنائها.
وبدورها تحدثت إيناس خضر الاختصاصية الاجتماعية والنفسية، عن وضع الناجيات من السرطان كون طبيعة عملها تفرض عليها التعاون معهن، قائلة "للرسالة":" أغلب التعب النفسي يكون وقت الاعلان عن الإصابة بالمرض حيث أن فترة العلاج تمر بثلاث مراحل "الدهشة والانكار والمرحلة العملية".
وتوضح خضر أنه بعد المرحلة العملية - أي تقبل المريضة لمرضها- بعض النساء اذا لم تتلق الدعم النفسي من الأقارب تبقى نفسيتها مشوهة، أما في حال تلقت الدعم فتصبح سيدة قوية.
وتشير الاختصاصية النفسية أن كثيرا من السيدات بعد النجاة يكتشفن شخصيتهن القوية ويصبح لهن نشاطهن الاجتماعي ويعملن بجد واجتهاد، مبينة أن الإنسان بطبعه حينما يصاب بمشكلة وينتصر فيها يريد مساعدة الآخرين وتلك النسوة الناجيات يدعمن المريضات لمواجهة الخبيث والانتصار عليه ومواجهة المجتمع من جديد.
وعن أبرز المشكلات النفسية والاجتماعية التي تجدها مع الناجيات من الخبيث عند تقديم الدعم النفسي والاجتماعي لهن تقول خضر:" تبدأ المشكلات حينما تدرك السيدة أنها ستفقد جزءا كبيرا من أنوثتها حيث أن أكثر شيء يتعبها هو نظرة المجتمع لها وكأن مرضها معد خاصة زوجها الذي يهجرها.
وتتابع:" نظرات المجتمع للناجيات كالمريضات على حد سواء، فيرفض كثيرون أن يزوجوا أبنائهم بفتيات امهاتهن مصابات بالسرطان"، لافتة في الوقت ذاته إلى أنه كما هجر رجال زوجاتهم ورحلوا أو طلقوهن هناك اخرون تمسكوا بهن وبقوا برفقتهن حتى وصلوا إلى بر النجاة.
اختصاصي اجتماعي ونفسي: المرض كان حجة للهروب والانفصال قبل النجاة
وبحسب متابعة خضر، فإنه لا يمكن الحكم على الأزواج أنهم يهجرون زوجاتهم عند المرض، فالأغلبية رحلوا بسبب أن العلاقة الزوجية بينهما مفككة قبل المرض، الذي كان حجة للهرب والانفصال.
وحملت الاختصاصية الاجتماعية، السيدات السبب في تخلي البعض من حولهن، حيث أن الكثير منهن تحاول العيش وحدها وكأنها قوية ولا تريد وقوف أحد بجانبها، داعية المصابة والناجية على حد سواء بإعطاء الفرصة للزوج ليقف بجانبها حتى النجاة.
وذكرت أن كثيرا من السيدات يرفضن وقوف أحد لدعمهن لشعورهن أنهن قويات والزوج يشفق عليهن، وما يجعلهن يشعرن بذلك هو الاهتمام الزائد من قبل الزوج والاهل، موضحة أنه في كثير من الأحيان تطلب من الازواج بعدم اظهار الشفقة أمام زوجاتهن المصابات.
ودعت خضر النساء بعدم هجران الزوج فترة المرض والنجاة، فهناك كلمات رقيقة وأجواء أفضل تجعلهن يعشن حياة زوجية سعيدة بدلا من المشاكل.
وتوضح أن هناك معتقدات خطأ لدى المجتمع وهو أن المرض الخبيث "السرطان" معد، ويورث للأبناء مما يحرم الكثير من بنات الناجيات الزواج، مدللة على ذلك بالقول" ذهب أحد الشباب إلى العيادات المتخصصة بصحبة والدته، ليؤكد الطبيب لوالدته أن خطيبته غير مصابة بالسرطان وتحاليلها جيدة ولا علاقة لها بمرض والدتها وأنه غير معد".
وتؤكد خضر أن النساء يعنفن النساء المصابات والناجيات فالظلم الذي يقع عليهن يكون من النساء، مشيرة إلى أن السرطان ليس نهاية الحياة بل بدايتها والكشف المبكر يحد من انتشار المرض والتغلب عليه.
طوق النجاة
بعض الرجال يدعمون زوجاتهم ويأخذون بأيديهن للوصول إلى بر الأمان، وفي المقابل يوجد كثيرون يهربون ولا يواجهون الواقع كما حصل مع زوج " هناء" الذي هرب بمجرد علمه أن زوجته تعاني من "سرطان الغدة" ليس أكثر فلم يتحمل أن يرى تشوهات حول رقبتها بسبب العمليات الجراحية، او رؤيتها "صلعاء" بفعل الكيماوي.
فرغم صغر سنها هجرها زوجها وهاجر خارج البلاد دون أن يحدد وجهته، وهي تحاول الوصول إليه لكن دون جدوى.
ورغم تماثل هناء للشفاء، إلا أن وضعها النفسي لازال سيئا، فهي تطرق أبواب المؤسسات الخيرية علها تجد من يساعدها لتتمكن من إعالة صغيراتها الثلاث.
طبيب مختص: الناجية تشعر بوجود "عيب" بعد استئصال جزء من جسدها
وبعد الانصات لهموم الناجيات، طرقت "الرسالة" باب مؤسسة العون والأمل، والتقت مديرتها ومؤسستها "إيمان شنن" بعدما نجت من سرطان الثدي ورفضت الاستسلام له، فأصرت أن يكون هناك بيت للمصابات والناجيات على حد سواء.
بداية الحديث مع شنن قالت " أسقطت من حياتي كل من كان يشير علي في أي مكان " مش هادي بنت الدكتور العيانة"، وقاومت حتى انتصرت ونجوت.
وذكرت مديرة الجمعية أنها استغلت "أكتوبر الوردي" لتلقي الضوء عبر فعالية شعارها "حكاوي الحياة" لتتحدث فيها الناجيات عن تجربتهن لتوصل رسالة أمل وحياة للنساء المصابات.
وأوضحت شنن أنه كلما كان الكشف مبكرا لدى السيدات فإن نجاتهن تكون أسهل وأسرع للعودة إلى الحياة، لافتة إلى أن هناك مشكلة في معدل النجاة في قطاع غزة يصل إلى 25 % بسبب تأخر الاكتشاف والمعالجة.
وعن الإمكانيات التي تقدمها جمعيتها للمصابات بالسرطان ذكرت أن هناك كثيرات يطرقن باب الجمعية لتقديم الإمكانيات المتوفرة كمواصلات الطريق للعلاج في الأراضي المحتلة أو توفير الأدوية التي لا توجد في القطاع، عدا عن جلسات الدعم النفسي التي تفتقر لها المشافي الحكومية وتقدم للمصابات والناجيات على حد سواء.
وتشير إلى أن علاج مرضى السرطان لم يعد على سلم الأولويات في ظل الانقسام السياسي.
وتطرقت شنن إلى البرامج التي تعقدها جمعيتها " كوني جميلة، قاتلي كالصغيرات"، عدا عن توفير الأثداء الصناعية والباروك، وذلك كي لا تكون المصابة والناجية مضطرة لتبرر ما حدث لها.
وبحسب متابعتها للناجيات فإنهن غدون أكثر جرأة للحديث عن حكايتهن لتوعية الأخريات، فأصبح هناك جيش من الناجيات يعلمن المصابات كيفية التحدي للوصول إلى بر النجاة.
جزء من الأنثى
وحكت شنن، أن هناك أزواجا كثرا يأتون لجمعيتها يشتكون زوجاتهم بسبب رفضهن للاحتواء، ويردن أن يواجهن بأنفسهن مما يسبب انهيارهن نهاية المطاف، مستذكرة حكاية لرجل طرق جمعيتها لأن زوجته تريد الطلاق بسبب اصابتها بالخبيث ، فهو يحبها كثيرا لكنها غير مستوعبة لوضعها الجديد.
وتحدثت عن نقطة هامة تتعلق بالأطباء أنه لابد من تأهيلهم للتعامل مع المرضى، فالوضع النفسي مهم للوصول إلى النجاة، مشيرة إلى أن مصابة جاءتها في حالة انهيار فالطبيب حينما اخبر زوجها "المُقعد" بمرضها قال له " روح تجوز عليها احسنلك".
ويعقب الطبيب أحمد الشرفا رئيس قسم الأورام في المستشفى الأوروبي على ما أوردته شنن بالقول:" ليس من حق أي طبيب غير مختص ابلاغ مريض "السرطان" بمرضه، فتلك مهمة ذوي الاختصاص كون ذلك جزءا من دراستهم في مجال الأورام".
ويؤكد الشرفا الطبيب المختص، أن الحالة النفسية تلعب دورا كبيرا في تلقي المريض جرعاته، لاسيما لو كانت أنثى فطبيعتها السيكولوجية والنفسية تختلف عن الرجل وتكون بحاجة لمن يدعمها وليس من يشفق عليها، موضحا أن مؤازرة المريضة تدفعها لتلقي جرعاتها الكيماوية بانتظام والشفاء بوقت أسرع.
وكشف أن أغلب الحالات بحاجة لدعم نفسي أكثر كون المصابات اللواتي يطرقن قسم الأورام السرطانية صغيرات السن، مبينا أنه كلما كانت السيدة كبيرة في السن تكون صدمتها أخف من الشابات.
وأوضح الشرفا أن المستشفيات في قطاع غزة تفتقر لفريق الدعم النفسي المتخصص في التعامل مع مصابي السرطان والناجين منه على حد سواء، مشيرا إلى أن الأهالي أيضا يلعبون دورا هاما في دعم المريض خاصة السيدات اللواتي يصبن بسرطان الثدي.
ومع نجاة السيدات، إلا أن الطبيب يلاحظ "الناجية تشعر أن لديها "عيب" بعد استئصال جزء من جسدها فتحاول إخفاء مرضها رغم نجاتها، وغالبيتهن لا يتلقين العلاج في المنطقة القريبة من سكناها فعلي سبيل المثال نجد مصابة من غزة تأتي إلى خانيونس والعكس، ويرجع ذلك إلى ضعف التوعية.
وعن مدى دعم الأزواج لزوجاتهن، رفض الشرفا الحديث عن الجانب السلبي وتحدث عن الذين يقفون إلى جانب زوجاتهن حتى الوصول إلى النجاة دون تذمر أو معايرة، مؤكدا أن سرطان الثدي رغم اشمئزاز بعض الأزواج من إصابة زوجاتهن إلا أنه يسهل الشفاء والتعافي منه.
ولفت الطبيب المختص إلى أن الحكومة مقصرة مع مرضى السرطان، فهم بحاجة إلى مشفى متخصص تجرى فيه كل الفحوص، عدا عن جلسات الدعم النفسي على أيدي متخصصين.
صرخات روتها ناجيات وأخرى لاتزال مكبوتة في صدور مصابات، لا يردن الشفقة ولا المعايرة فقط ينشدن حياة عادية لا يعانين فيها وصمة "المرض النفسي" والشعور بالدونية.