في الوقت الذي تتسع فيه حركات المقاطعة الاقتصادية للكيان (الاسرائيلي)، تتهافت الدول العربية من أجل التطبيع الاقتصادي مع الاحتلال لتعوض له الكثير من خسائره التي تكبدها من تزايد نشاط حركة المقاطعة.
دولة الاحتلال التي قدرت الخسائر الاقتصادية من المقاطعة الدولية وبالأخص الأوروبية بـ 11 مليار دولار، تسابق الزمن لزيارة الدول العربية في محاولة منها للتبادل التجاري وتسويق الكثير من منتجاتها التي لا تجد مكانا لها بين أسواق العالم.
ولأن القرارات السياسية تؤثر على الاقتصاد، بطبيعة أن الاقتصاد مرآة تعكس السياسة في الدولة، تتسع رقعة التطبيع الاقتصادي بين الدول العربية والاحتلال بالتزامن مع التطور الكبير في العلاقات السياسية.
تاريخ التطبيع
ولعل التطبيع الاقتصادي ليس حديث العهد، فأهم عمليات التطبيع بين العرب و(إسرائيل) كانت مع مصر التي وقع رئيسها أنور السادات عام 1978 في "كامب ديفيد" اتفاقا "للسلام" المنفرد.
وبقيت الأنظمة والشعوب العربية خارج نطاق هذا الاتفاق إلى حين قدوم موجة التطبيع الثانية عام 1991 بعد انطلاق مفاوضات السلام العربية-(الإسرائيلية) إثر مؤتمر مدريد.
ومع قدوم السلطة للأراضي الفلسطينية وتوقيع اتفاق "أوسلو" عام 1993 بين (إسرائيل) ومنظمة التحرير الفلسطينية، واتفاق وادي عربة مع الأردن في العام التالي، ساد تفاؤل في الشارع العربي بأن الصراع العربي-(الإسرائيلي) في طريقه للحل من بوابة إنصاف الفلسطينيين وحصولهم على دولة.
كما أعلن وزير المعلومات والنقل (الاسرائيلي) يسرائيل كاتس خلال مقابلته مع صحیفة "إیلاف السعودية" عن خطة مشتركة بين السعودية و(إسرائيل) والامارات لإنشاء وتطوير خط سكة حديد مشترك.
وقبل أسبوع، شارك وزير الاقتصاد والصناعة (الاسرائيلي) إيلي كوهين، في مؤتمر مهني عقد في المنامة، بعدما تلقت وزارة خارجية الاحتلال دعوة رسمية من البحرين.
وتعقد الدول العربية صفقات شراء الغاز (الاسرائيلي) بمليارات الدولارات، رغم وجود ما هو أرخص منه في الدول الأخرى، إلا أن خطب ود (إسرائيل) اقتصاديا وسياسيا أهم ما يشغل معظم الرؤساء العرب.
وتتمثل سياسة الاحتلال الصهيوني بالتطبيع الاقتصادي في تخصيصه لإنتاج السلع التكنولوجية والمتقدمة، فيما يتحول الوطن العربي وفلسطين إلى سوق لتلك السلع، وإلى تصدير المواد الخام والنفط والسلع كثيفة العمل، لأن اليد العاملة أرخص في الوطن العربي.
إن اتساع حجم سوق الصادرات (الاسرائيلي) يمكن اقتصاد الاحتلال من تحقيق اقتصاديات الحجم "وفورات الحجم" -تخفيض متوسط الكلفة للوحدة الواحدة في الصناعات التي تتمتع بهذه الصفة-.
كما إن ارتفاع نسبة البطالة الفلسطينية والعربية تجعل من السوق (الاسرائيلية) مكانا خصبا للعمال وتسبب بارتفاع الأجرة.
وباتت حركة مقاطعة (إسرائيل) "بي دي أس" مقلقة لاقتصاد الاحتلال، وخسائرها باتت بالمليارات بعد تحقيقها نجاحات كبيرة في اقناع دول كبرى في العدول عن كثير من العلاقات الاقتصادية مع (إسرائيل).
والـ "بي دي أس" هي حركة فلسطينية ذات امتداد عالمي تنظم حملات المقاطعة لـ(إسرائيل)، وتمتلك فروعا في معظم بلدان العالم عبر شبكات من النشطاء المدافعين عن الحق الفلسطيني والداعين إلى وقف "الأبارتايد الإسرائيلي".
وتكمن أبرز النجاحات التي حققتها الحركة، في القوانين التي اضطر الاتحاد الأوروبي لتعديلها بعد سنوات طويلة من التسويف، مما أدى إلى فرض قيود على منتجات المستوطنات (الإسرائيلية)، وعدم شمولها في اتفاقية التجارة الحرة مع (إسرائيل) والموقعة عام 1995.
ويواصل الاحتلال الليل بالنهار للعمل بطرق مختلفة من أجل دعايته الاعلامية والثقافية، لفك "عقدة المقاطعة"-وهي السلاح الأمضى لدى العرب- وتسعى لتهيئة أذهان النخب لذلك.
وما سهل على (إسرائيل) أن تختفي عن الساحة كعدو، حالة التفكك والانكسار والحروب التي تشهدها المنطقة بعد الربيع العربي، وهو ما أدى لتشوه الرؤية لمعادلات الصراع.
وفي حديث سابق لرئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، أكد أن "العلاقات مع الدول العربية تعيش حاليا تطورا غير مسبوق، وهي أكبر من أي وقت مضى، وهذا تغيير هائل".
وقال نتنياهو إن "الزعماء العرب ليسوا عائقا أمام توسيع العلاقات مع العرب"، معتبرا أن الشعوب والرأي العام السائد بالشارع العربي هي العائق الأساس أمام ذلك.
ويشير تصريح نتنياهو إلى أن (إسرائيل) لم تعد تجد صعوبة في اختراق الحكومات والأوساط الرسمية وجلبها إلى مربع التطبيع، كما تفعل مع المسؤولين والمضاربين في سوق السياسة، لكنها تجد صعوبة شديدة في اختراق المجتمع المدني والشعوب رغم التركيز الكبير على هذا الأمر، ولعل فشلها منذ نحو أربعين عاما في اختراق المجتمع المصري، ونحو ثلاثين عاما في الأردن، رغم اتفاقيات السلام يؤكد ذلك.