كلما همّت الشمس بوداع صحراء تمنراست (2000 كلم جنوب العاصمة الجزائرية) الوادعة، افترش أهلها الرمال والتحفوا السماء والنجوم وضوء القمر.. يجتمع الرجال والنساء ويعلو صوت الغناء والعزف على آلة الإمْزاد.
تجلس "تينهينان" رفقة مجموعة من النسوة تحت خيمة مفتوحة، حَوْلهن رجال يرتدون لباسا تقليديا يلازمه لثام ملفوف بإحكام على وجوههم فلا تظهر سوى عيونهم. وبلحن هادئ هدوء أهل البادية، تعزف "تينهينان" بأناملها الطويلة على آلة وترية تشبه الكمان، أتقنت عزفها بواسطة والدتها، وعن وتره الوحيد قالت "هل للإنسان أكثر من قلب ليحب؟".
آلة الإمْزاد عبارة عن قدح من خشب يغطى بجلد ماعز أو غزال، ويخرج من طرفيه عودان يشد بينهما قضيب من شعر الخيل، كما يثقب الجلد ثقبان أو ثلاثة في الوسط. ويؤخذ عود على شكل هلال ويُربط طرفاه بقضيب من شعر ذيل الخيل.
يرافق هذه الآلة غناء في السهرات "التارقية" تتضمن كلماته معاني الحب والشوق، كما تتضمن معنى الشجاعة والحرب. ويتنوع الغناء في مجتمعات الطوارق في الصحراء الجزائرية وشمال مالي والنيجر حسب المقام، إما غناء بالأمجاد والبطولات، وإما التغني بالحبيبة في الطرق الطويلة، أو غناء مناسبات.
محرّمة على الرجال
القصيدة الإمْزادية تتميز عما سواها من القصائد، لأنها تأتي على فترات تنتقي فيها المرأة أجمل القصائد وأعمقها لتؤديها، بينما يلتف الرجال والنساء حولها للاستماع إليها.
توضح العازفة "تينهينان" أن آلة الإمْزاد مرتبطة بتاريخ الطوارق وثقافاتهم، وهي آلة محرّمة على الرجال، وكل من يحاول منهم عزفها يُقاطعه أفراد القبيلة، لأنهم يعتقدون أن ذلك ينتقص من رجولة عازفها.
تعزف آلة الإمْزاد في الحب والحزن والفرح، فتسمّى موسيقى الفرح "إيسوهاغ نيمزاد وينترا"، ويُطلق على موسيقى الحزن "إيسيوهاغ نيمزاد وينتكا".
أسطورة الإمْزاد
الحديث عن الإمْزاد ارتبط دوما بالقصص والأساطير التي خطها الطوارق وتوارثوها في ثقافتهم حول البدايات الأولى لهذا اللون الموسيقي وآلته المميزة، وتقول بعض الروايات إن ملكة الطوارق "تينهينان" التي استقرّت في منطقة الهقار بولاية تمنراست، هي أوّل من اخترع هذه الآلة، وقد حكمت في القرن الخامس للميلاد.
موسيقى السلام
وتقول رواية أخرى إن امرأة من نساء الطوارق سئمت من نحيب النساء على قتلاها، في زمن شهدت فيه المنطقة حروبًا طاحنة بين القبائل، فخرجت هائمة وجمعت عيدانًا وبعض شعر الخيل وعادت لتصنع آلتها ممّا وجدته حولها، وجلست تعزف أولى موسيقاها، ولما سمعها كل من كان بقربها تجمعوا حولها، وسمع بها المحاربون من القبائل الأخرى المعادية لقبيلتها فقدِموا وقد أغمدوا سيوفهم ليستمعوا إليها، فحلّ السلام بين قبائل الطوارق.
عوالم موسيقى الإمْزاد
بين جبال الهڨار والطاسيلي بدأت قصة أحادية الوتر.. الإمْزاد آلة وجد فيها نساء الطوارق الملاذ الروحي والصوفي، وجعلها الرجل الأزرق وسيلة مهمة في التعبير عن الانفعالات والأفكار والتنفيس عن الروح.
لحن الإمزاد ينقسم إلى لحن أساسي أو سيّد يُطلق عليه في اللغة الأمازيغية "آمغار"، وألحان فرعية تسمى "إيزلان"، وهي الفروع أو الأغصان. ويوجد 36 لحنا خالدا ومعروفا في هذه الموسيقى.
أما القصائد المرافقة للحن فتتناول مواضيع تشكل صلب حياة الإنسان الطارقي وتعطي معنى لوجوده، وهي مواضيع تدور حول المرأة والجمال والشجاعة والنبل والوطن، إضافة إلى قصائد تغنى في المناسبات الاجتماعية والدينية كالأعراس وأعياد المولد النبوي وعاشوراء.
المرأة هي العازفة الأولى والأخيرة على آلة الإمزاد، إذ العزف عليها محرم على الرجل الأزرق. كما أن المرأة مجتمعات الطوارق هي الركيزة الأساسية التي يقوم عليها البناء الاجتماعي.
كل هذا جعل منظمة اليونسكو تدرج موسيقى الإمزاد يوم 4 ديسمبر/كانون الأول 2013 ضمن التراث الثقافي العالمي.
إنقاذ الإمْزاد
شارفت الإمزاد على الزوال، ولم يبق سوى عازفة طاعنة في السن اسمها "ألامين خولن"، لكن تأسيس جمعية "أنقذوا الإمزاد" عام 2003، نفخ الروح في هذه الآلة.
تُرجع "تينهينان" الفضل في تأسيس الجمعية إلى فريدة سلال زوجة رئيس الوزراء الجزائري السابق عبد المالك سلال حين عرضت مساعدتها على زعيم قبائل الطوارق "المنوكال"، فأجابها بأنه لا يريد شيئًا سوى إنقاذ الإمزاد.
تضيف المتحدّثة أنهم بعد تأسيس الجمعية اتصلوا بألامين خولن ونسقوا معها من أجل تدريب فتيات المنطقة على عزف الإمزاد.
وبعدها أقيم "بيت الإمزاد" الذي يضم مسرحًا للعروض وصالة للرقص وأستوديو للتسجيل وورشة لصناعة هذه الآلة الموسيقية.
وهكذا أعادت هذه الجمعية الروح إلى آلة طربية كادت تزول، فسجّلت موسيقى الإمزاد حضورًا متميّزًا في التظاهرات الثقافية والمهرجانات الدولية، لا سيما المهرجان الدولي لموسيقى الهقار في تمنراست.
المصدر : الجزيرة