يبدأ عام جديد في حياة كل الناس، وعام آخر يقرّب نائل البرغوثي من السنة الأربعين في السجن. أكثر من نصف عمر القضية الفلسطينية قضاها «جنرال الصبر» أسيراً. ارتاح فيها لثلاث سنوات فقط، بين 2011 و2014، وهذا الأصعب: أن تتنشّق الحرية، أن تتعرّف إلى وجوه أصدقائك القدامى، أن تتعرّف إلى الحاسوب والإنترنت... وفجأة ينتهي الحلم. هذا الرجل تعلّم أن يتشبّث بحقوقه ويرفض المساومات. فمنذ الصغر، عندما حاول زميل الدراسة أخذ كتاب التاريخ منه، قاوم بكلّ ما يمكن للطفل أن يقاوم، كما رفض اقتراح المعلم تقسيم الكتاب إلى جزءين. اعتُقل وهو فتى، طالب في الثانوية العامة، لتمرّ عليه 34 عاماً، ثم سنوات الحرية الثلاث، ثم سبع سنوات من الأسر ليصير عمره الآن 62 عاماً، ولا يزال يواجه حكمه القديم: المؤبّد. ومع أنه يعلم تمام العلم أن لا حرية من القيد إلا بصفقة تبادل جديدة تشمله، فإن «جنرال الصبر» هو عنوان عائلته المُقاتِلة التي لا تستقيل من الأجداد إلى الأحفاد، منذ سجن نائل وعمر وفخري في 1978، إلى دم صالح في 2018، وبينهما أجيال من الشهداء والأسرى، آخرهم الشهيد صالح الذي شارك في تنفيذ إطلاق نار قرب مستوطنة «عوفرا»، وسط الضفة.
«أتمنّى الاستلقاء ساعة فقط تحت شمس قريتي كوبر وفوق ربيعها». سرٌّ صغير نقله الأسير الفلسطيني نائل البرغوثي، لوالدته، أثناء إحدى زياراتها إليه في سجون العدو. ومع أنه حقّق أمنيته بعد 34 عاماً، لم يكن أبوه أو أمه على قيد الحياة عندما خرج ليشهدا تلك اللحظة. ليت الوجع انتهى هنا، إذ لم يكمل ثلاث سنوات من «الحرية المشروطة»، حتى لاقى أسوأ مصير يمكن أن يتعرّض له أسير محرّر. فما إن تنفّس الصعداء عقب «صفقة شاليط» عام 2011، حتى أعاد العدو اعتقاله في 2014. هذا ملخّص سيرة «أقدم سجين (سياسي) في العالم»، يدخل عامه الـ 39 في السجن، فصلت ما بينها سنوات في «سجن أكبر، سماؤه بلا قضبان»، كما يصف.
قبل سبع سنوات، في تبادل «وفاء الأحرار» الكبير، كان بإمكان نائل أن يتّخذ قرار الإبعاد، شأنه شأن عدد من الأسرى المُفرَج عنهم آنذاك، ويجنّب نفسه هذا المصير، لكنه كان سيحرم ذاته تحقيق أمنية الاستلقاء تحت شمس كوبر. لذلك قال: «اقتراح الاحتلال إبعادنا خارج فلسطين مرفوض، ولن نقبل إلا العودة إلى عائلاتنا». ما إن خرج في 11/10/2011، ولم يمرّ سوى اثني عشر يوماً، حتى حقّق أمنية والدته وعَقد قرانه على الأسيرة المحررة إيمان نافع (من قرية نعلين غربي رام الله). وفي حفلة زفافه، قال لوسائل الإعلام: «كما ترون: عرس وطني، وإن شاء الله يكون امتداداً لعرسٍ أكبر بتحرر (باقي) إخواننا الأسرى».
اعتقُل نائل في 1978 وتحرّر في 2011 ثم اعتُقل في 2014
في لقاء آخر (23/11/2011)، يسأله محاوره عبر التلفزيون: «كيف بدت لك قريتك، وما هي مشاعرك بعد 33 عاماً في السجون». ينسى «أبو النور» نفسه وهو يصف قريته التي رفض أن يُبعَد عنها، مسهباً في الحديث عن «سحر الطبيعة» الذي بدا أن له حصّة واسعة في شخصيته. يستدرك: «لم أتنسّم حريتي كلياً، فأبناء شعبي تنقصهم حقوقهم، وحياتهم ليست طبيعية كباقي العالم، إنني أعيش في سماء بلا قضبان، وحريتي منقوصة رغم أن الوضع مريح نوعاً ما». في ختام اللقاء، يصفه المذيع بـ«الأب الروحي للحركة الأسيرة»، لكنه يعترض بشدة: «عفواً، لست الأب الروحي، خلفنا وبعدنا جاء عشرات الجنود المجهولين، يجب تسليط الضوء على الأسرى كافة».
سنوات «الحرية»
مقابل رفض نائل الإبعاد، فُرضت عليه الإقامة الجبرية في محافظة رام الله والبيرة، وكان ممنوعاً عليه أن يخرج من حدودها. صحيح أنه لم ينل المساحة التي نالها مَن قَبِل الإبعاد أو أُجبر عليه، لكنه نجح في نيل أمنيته بالاجتماع مع عائلته وتوأم روحه، قريته كوبر، وضريحَيْ والديه، كما نفّذ وصية والدته. استثمر البرغوثي سنوات الحرية المؤقتة في دراسة التاريخ في جامعة القدس المفتوحة، كما شارك شقيقه عمر الفرحة بزفاف نجل الأخير، الشهيد صالح (منفذ عملية فدائية قرب مستوطنة «عوفرا» الشهر الماضي).
رغم «حريته» المنقوصة، شارك في الفعاليات المتضامنة مع الأسرى في رام الله، كما بقي حريصاً على الحضور في المناسبات الاجتماعية، وزيارة ذوي الشهداء، ومنهم عائلة الشهيد عبد الحميد حامد في بلدة سلواد، شرقي رام الله، رغم مرور 28 عاماً على استشهاده. وبينما كانت الشمس في كبد السماء خلال تموز/ يوليو 2013، أصّر نائل على أن يحمل على كتفيه جثمان رفيق أسره أحمد أبو السكر، طوال التشييع، إذ قال: «أبو السكر حمل قضية فلسطين 27 سنة في السجون، فلنحمله 27 دقيقة على الأكتاف».
أيضاً، عاد نائل الشغوف بالأرض وطبيعتها الساحرة إلى تقاليد المزارع الريفي، ليحقّق أمنية من أمنيات السجن، فزرع عشرات الأشجار بيديه في حديقة أمام منزله واعتاد الاعتناء بها يومياً، كما التقط صحافيون صوراً له أثناء تربيته بعض الماشية. مرّت تلك الأيام كحلم جميل لم يتخيّل نائل، وعشرات المحرّرين، أن ينتهي بسرعة، عقب إعادة اعتقالهم عام 2014 في ردّ فعل واسع على قتل ثلاثة مستوطنين إسرائيليين في الخليل. منذ ذلك الوقت، قضى «أبو النور» ثلاثين شهراً بتهمة «التحريض عبر إلقائه محاضرة»، وبعد انتهاء المدة، أعاد العدو إليه حكمه السابق بالمؤبد، بذريعة «ملف أو تهمة سرية».
خارج الزمن
على مدار 34 عاماً، رفض العدو الإفراج عن «جنرال الصبر» في صفقات التبادل كافة، فاكتفى «أبو اللّهب» بتقديم التهاني إلى رفاقه المحرّرين الذين سبقوه، ومنهم شقيقه عمر الذي نال حريته أول مرة في 1985 خلال صفقة أبرمتها «الجبهة الشعبية ــــ القيادة العامة». ولم يشهد التاريخ أن نائل البرغوثي تخلّف عن أي إضرابٍ جماعي للحركة الأسيرة منذ اعتقاله في 1978، إذ بدأ إضرابه الأول عن الطعام لثلاثة أيام للمطالبة بتحسين جودة الطعام التي تقدمه إدارة السجون (يُعدّه الأسرى الجنائيون وغير الأمنيين). وجراء رفض الإدارة طلبهم، أضربوا عن الوجبات الغذائية المطهُوَّة لنحو نصف عام، واكتفوا بالخبز واللبن والفواكه وما شابهها من الأصناف غير المطبوخة، ثم رضخ العدو في النهاية وسلّمهم المطبخ.
يقول مُقرّبون إن نائل بدأ حياته يافعاً مقبلاً على دراسة الفكر التقدمي اليساري، لكنه سرعان ما تحوّل إلى العسكرة منخرطاً في صفوف «الكتيبة الطلابية» التابعة لـ«فتح»، إذ وجد فيها ما يلبّي عنفوانه وحماسته، وبقي كذلك حتى 1992، عندما اتجه نحو الالتزام الديني، واختار أن يُكنّى بـ«أبو النور». مع توقيع اتفاق «أوسلو» وتَسلّم السلطة الفلسطينية (1994)، نُقل نائل إلى سجن بئر السبع بعدما مكث أحد عشر عاماً في سجن جنيد في مدينة نابلس، قضى ثماني سنوات منها في زنزانة واحدة. بعد نقله بمدة قصيرة (1995)، قرّر العيش داخل أقسام حركة «حماس».
خلال أحد أيام 1997، فوجئ البرغوثي بعصفور يرتجف ويلتقط أنفاسه الأخيرة ولا يقوى على الطيران، محاولاً أن ينفض عن نفسه غبار سجن نفحة. أمسك الأسير الإنسان بالأسير العصفور ونفخ في منقاره، وأمدّه بقطرات الماء، ثم تنفّس العصفور وحلّق عالياً. يصف أسرى محرّرون نائل بـ«الرجل الوحدوي»، و«القارئ النهم»، و«واسع الاطلاع وكثير الإلمام في موضوعات شتى». ويقولون إن هذه الشخصية الآسرة للرجل الصابر تمتزج بالتواضع وتغلب عليها روح الفكاهة.
«المدرسة البرغوثية»
«درهم شرف خير من بيت مال». هذه المقولة كرّرتها أم نائل، فَرحة، لابنيها على مدى سنوات، وقالتها في الزيارة الأخيرة لنائل. ولما بَلَغتها أمنية ابنها في الاستلقاء على بساتين قريته وتحت شمسها، قالت لمراسل صحيفة «هآرتس» العبرية: «شو رأيك أخطفك، بس شوي، عشان أبادلك بنائل». بعدها، زرعت «الحجّة فرحة» شجرة ليمون باسم نائل في كوبر، وواظبت لسنوات على إحضار عبوات المياه لسقايتها من سجن نجلها، بل قطفت ثمرها ومرّرته إليه في السجن، قبل أن يمنَع العدو إدخال الليمون. وما إن لحظ نائل تعبها من نقل المياه من السجن، والليمون إليه، حتى توقف عن طلبه سقاية الشجرة.
توفّي والده في 2004 ووالدته في 2005 وتزوّج بأسيرة محررة
ذات مرة، تعمّد أحد جنود العدو تكرار المناداة على والدته محرّفاً اسمها: «فرخة! فرخة»، فردّت عليه: «فرخة! بس أنجبت ديوك يلعنوا أبوك». لم تعرف فرحة الكلل أو الملل، وجابت غالبية سجون العدو لزيارة ابنَيها نائل وعمر، كما خاضت معظم الإضرابات خارج السجون تزامناً مع إضراب أبنائها في الداخل. في 18/10/2005، انتظر الشقيقان نائل وعمر صوت والدتهما في برنامج الأسرى عبر إحدى الإذاعات. كانت وصاياها الأخيرة على الملأ: «درهم شرف ولا بيت مال يا حبايب قلبي... ليت إيمان نافع* تكون من نصيبك يا نائل!». ثم بعد يوم توفّيت الأم.
قبلها بسنة، أي في 2004، كانت زيارة الأب، صالح، الأخيرة لنجله نائل بعد منعٍ استمرّ سنوات. وبعدها توفّي الأب وتلقّى نائل وشقيقه عمر (المُعاد اعتقاله آنذاك) الخبر المفاجئ. آنذاك، ساق القدر الأخوين إلى الالتقاء في «معبار بئر السبع»، وبينما لهيب الشوق ينطفئ، عادت نار الفراق، إذ همس زميلٌ أسيرٌ في أذن الآخر: «المُسنّ بالثياب الزرقاء والعصا (صالح) لم يأتِ للزيارة... لقد مات!». أما الشقيقة الوحيدة لنائل، وكان عمرها 12 عاماً عند اعتقاله، فتزوجت وصار لديها أولاد ثم أحفاد، قبل أن يتحرّر هو في «صفقة شاليط». والآن عاد عمر، «أبو عاصف، إلى السجون مجدداً عقب استشهاد نجله صالح المحتجز جثمانه.
في مؤتمرٍ صحافي في التاسع عشر من الشهر الجاري، طالبت العائلة بالكشف عن تفاصيل ما حدث لنجلها صالح (استشهد في 12/12). ثم قرأ رئيس «هيئة شؤون الأسرى» السابق عيسى قراقع، رسالة «جنرال الصبر» لعائلته، إذ قال فيها: «نُعزيكم باستشهاد صالح البرغوثي فارساً مقاتلاً، وأسال الله الفرج لأخينا أبو عاصف وابنه، وستتشرّفون بأنكم كنتم من الذين قدموا أرواحهم فداء للحرية وللقدس، ونشدّ على أياديكم وسنبقى على عهد الشهداء».
«القسام» لنائل: ستعانق الحرية من جديد
في الثامن عشر من الشهر الماضي، أرسل نائل البرغوثي من داخل سجنه رسالة بمناسبة مرور 38 عاماً على اعتقاله، لم يفصل بينها سوى «الحرية غير المكتملة». يقول أبو النور: «أصدق التحيات والمحبة أبعثها لكم من خلف 38 جداراً هي سنوات الأسر التي لم تحجبني عنكم... نعيش الأمل الذي يظلّلنا بقبس من نور الشهداء»، مضيفاً: «من خلف 38 عاماً، أقول لكم إن الشعب الذي أراد الحياة لن ينال إلا النصر». وجاء في الرسالة أيضاً: «الاحتلال لن يستطيع زرع الخذلان في نفسنا، لأننا نستند إلى جدار الله أولاً، ثم جدار كلّ من سار بخطى واثقة على درب من صنع الكرامة والعزة لأمتنا من المحيط إلى الخليج».
بعد يومين من رسالته، ردت «كتائب القسام»، الذراع العسكرية لحركة «حماس»، عبر تغريدة للمتحدث باسمها أبو عبيدة: «التحية الجهادية لأسطورة السجون وأيقونة المقاومة والصمود نائل البرغوثي، ونقول له: كما كسرنا القيد في وفاء الأحرار، سنكسر أنف المحتل وستعانق الحرية من جديد بإذن الله».
الطفولة والسجن: من «أبو اللهب» إلى «أبو النور»
المكان: قرية كوبر، شمال غرب رام الله، وسط الضفة المحتلة. الزمان: الثالث والعشرون من تشرين الأول/أكتوبر 1957. الحدث: صالح البرغوثي وزوجته فَرْحة على موعدٍ مع قدوم المولود الثاني لهما، نائل. ما إن بلغ هذا الطفل الرابعة من عمره، حتى سافر لأول مرة في حياته إلى الأردن مع أمه، لزيارة خاله المريض علي. وفي العام نفسه، زار المملكة مجدداً لتهنئة خاله بالإفراج عنه من السجون الأردنية.
بدأ نائل دراسته الابتدائية في مدرسة كوبر، لكنه في المرحلة الثانوية انتقل إلى بلدة بيرزيت، شمال رام الله. هناك، طلب من أساتذته تحويل اسم مدرسته إلى «مدرسة الثورة»، في وقت كانت فيه أجواء «حرب حزيران» 1967، أو ما تُسمّى «النكسة»، تحفر عميقاً في وعي كل فلسطيني، كما كانت «حركة التحرير الوطني الفلسطيني» (فتح) قد أعلنت انطلاقتها آنذاك.
في 1972، كانت أولى محطات العمل الثوري الفعلي للبرغوثي، إذ انخرط مبكراً في التظاهرات، ونجح في إنشاء علاقات مع الشباب الثوار الذين يكبرونه سناً في جامعة بيرزيت. ومن أبرز المسيرات الطلابية التي تقدّم صفوفها تظاهرة منددة باغتيال العدو «الكماليْن وأبو يوسف النجار» في بيروت عام 1973، ثم مسيرات يوم الأرض في 1976.
«أبو اللهب» هو اللقب المؤقّت الذي لازم نائل منذ السبعينيات حتى بداية التسعينيات، وأُطلق عليه لشهرته في إشعال إطارات السيارات خلال المواجهات في بيرزيت، لكنه تمكن في وقت قياسي من تجاوز مرحلة التظاهر والعمل الجماهيري (خلال سنتين فقط) إلى الكفاح المسلح. اعتقله العدو أول مرة في كانون الثاني/يناير 1978، وزَجّ به في سجن رام الله، لكن أُطلق سراحه بعد صموده، وجراء إخفاق المخابرات الإسرائيلية في توجيه لائحة اتهام إليه.
ثم في نيسان/أبريل التالي، وجد نائل نفسه في التحقيق مرة أخرى داخل السجن نفسه لأربعة أشهر. وبعد 12 يوماً، اعتَقل العدو شقيقه الأكبر عمر وابن عمه فخري، وحُكم على ثلاثتهم بالسجن المؤبد بتهم «قتل ضابط إسرائيلي شمال رام الله، وحرق مصنع زيوت داخل الأراضي المحتلة عام 1948، وتفجير مقهى في القدس المحتلة». داخل قاعة محاكمتهما، رفض الشقيقان وابن عمهما الاعتراف بشرعية محكمة العدو والإقرار بالذنب أو طلب الاستعطاف، فبدأ صراخ القاضي العسكري، وضرب بيديه على الطاولة صارخاً: «مؤبد مؤبد مؤبد». في تلك اللحظة، وقف الثلاثة وغنّوا: «ما بنتحول ما بنتحول يا وطني المحتل... هذي طريقنا واخترناها وعرة بنتحمل»، لتعلو فوقها زغاريد أمِّ «أبو النور» فَرْحة.