رغم رحيله المبكر في سن الخامسة والعشرين، ترك الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي تراثا غنيا ما زال يثير اهتمام النقاد وخيال الأدباء وحيوية الشعوب. وبعد 110 سنوات على ميلاده، يحتفي الكثير من محبيه بقصائده وأغانيه التي أحيت روح الثورة في تونس، حيث نضجت بذرة الربيع العربي.
وفي ذكرى مرور 110 سنوات على ميلاده التي تصادف اليوم الأحد، يحيي التونسيون في مدينة الشابة -مسقط رأسه- فعاليات ثقافية تستعيد تراثه الشعري الغني، تتضمن ندوات ومحاضرات وقراءات لأشهر قصائده التي شكلت جزءا من ثقافة ووعي الأجيال المتعاقبة، لا سيما الروح الثورية التحررية التي بثتها تلك القصائد في الشارع العربي إبان ثورته.
اشتهر الشابي بقصيدته "إرادة الحياة" التي استُخدمت بعض أبياتها في النشيد الوطني التونسي، كما تغنى بها العديد من المطربين والمنشدين، وباتت من أهم الشعارات التي رفعها الثوار في احتجاجات الربيع العربي، إذ يقول في مطلعها:
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر
ومن إبداعاته ذائعة الصيت نذكر أيضا قصيدة "إلى طغاة العالم"، التي كتبها الشابي خلال الاحتلال الفرنسي لتونس، كما غناها مطربون معاصرون بعد قرن على كتابتها. ويقول فيها:
ألا أيها الظالم المستبد حبيب الظلام عدو الحياه
سخرت بأنات شعب ضعيف وكفك مخضوبة من دماه
وسرت تشوه سحر الوجود وتبذر شوك الأسى في رباه
رويدك لا يخدعنك الربيع وصحو الفضاء وضوء الصباح
ففي الأفق الرحب هول الظلام وقصف الرعود وعصف الرياح
حذار فتحت الرماد اللهيب ومن يبذر الشوك يجن الجراح
تأمل هنالك أنّى حصدت رؤوس الورى وزهور الأمل
ورويت بالدم قلب التراب وأشربته الدمع حتى ثمل
ســيجرفك السـيل سيل الدماء ويأكلك العاصف المشتعل
وحتى اليوم، يستحضر التونسيون والعرب قصيدته "النبي المجهول"، التي تتجلى فيها تحذيرات الشابي من خطورة سيطرة الثقافة الاستعمارية على الشعوب، فيقول بلجهته الحماسية المعهودة:
أيها الشعب، ليتني كنت حطابا فأهوي على الجذوع بفأسي
ليتني كنت كالسيول إذا سالت تهدّ القبور رمسا برمس
ليت لي قوة العواصف يا شعبي فألقي إليك ثورة نفسي
ليت لي قوة الأعاصير لكن أنت حي يقضي الحياة برمس
ومن قصائده المشهورة التي شغلت النقاد كثيرا، قصيدة "نشيد الجبار"، التي تحمل أيضا عنوان "هكذا غنّى بروميثيوس"، ويقول في مطلعها:
سأعيش رغم الداء والأعداء كالنسر فوق القمة الشماء
أرنو إلى الشمس المضيئة هازئا بالسحب والأمطار والأنواء
نشأ أبو القاسم في كنف والده الشيخ محمد الشابي، الذي تنقل بحكم عمله في القضاء بين أنحاء تونس. وكان من مشايخ الزيتونة الأجلاء، فحرص على تربية بكره النابغة الذي نهل مبكرا من عيون العلم والأدب، كما انفتح أبو القاسم مبكرا على الأفكار الحداثية التي صدّرها المستعمر الفرنسي إلى المستعمرات، مما ترك بعض الأثر على فكره في نزعة الشك وروح التحرر.
توفي الشيخ الشابي على حين غرة مع بلوغ بكره سن العشرين، فوجد الشاب المرهف نفسه وحيدا ومسؤولا عن إعالة إخوته وزوجته وولديه الصغيرين، مما ترك في نفسه أعمق الأثر، وانعكس ذلك في بعض شعره، مثل قوله:
يا موت قد مزقت صدري وقصمت بالأرزاء ظهري
وفجعتني فيمن أحب ومن إليه أبث سري
وأعدّه غابي ومحرابي وأغنيتي وفجري
ورزأتني في عمدتي ومشورتي في كل أمري
وبما أن الشاعر الشاب كان مصابا منذ صغره بتضخم القلب، فقد تضاعفت معاناته بحزنه على وفاة والده، وتجلت معاناته تلك في العديد من قصائده، التي تداخلت فيها آلام الجسد ونزعة الشك بهموم الوطن وعشق الحرية، الأمر الذي يجعل من شعره مدرسة مستقلة في ميول التحرر المطعمة برهافة الحس.
طالب الأطباء أبو القاسم مرارا بالركون للراحة الجسدية والنفسية، لكن أعباء الحياة ومسؤولية الإعالة أجبرته على مواصلة العمل حتى الإعياء.
وبعد خمس سنوات من رحيل والده، كان المرض قد أنهك جسد الشاب الضعيف حتى فارق الحياة في مستشفى الطليان بالعاصمة التونسية فجر التاسع من أكتوبر/تشرين الأول 1934، رغم محاولات الأطباء ورحلات الاستشفاء العديدة، تاركا لشعوب المنطقة بأسرها أيقوناته الشعرية التي ما زالت تنبض بروحه المتوثبة للحرية.