مما يثير المرارة أنه في الوقت الذي تفرض المقاومة في قطاع غزة نفسها على الأجندة الصهيونية، وتنجح في إرغام نخب الاحتلال على إعادة تقييم سياساتها تجاه القطاع بفعل الفعل المقاوم، تمثل أنماط سلوك سلطة رام الله مسوغا للكيان الصهيوني لمواصلة نهجه الهادف إلى تصفية القضية الوطنية الفلسطينية، سيما الإصرار على التعاون الأمني، الذي يتناقض مع أبسط مقتضيات المنطق السليم.
فمن المفارقة أنه في الوقت الذي تبدي حكومة اليمين المتطرف في (تل أبيب) كل هذا الغلو في مواقفها تجاه الفلسطينيين، تقر القيادات العسكرية الصهيونية بأن أجهزة السلطة الأمنية تزود (إسرائيل) بمعلومات استخبارية تسهم في تفكيك خلايا المقاومة في الضفة الغربية.
فحسب الجنرال إفرايم سنيه، الوزير الأسبق والذي قاد الاحتلال في الضفة والقطاع، فإنه بفضل تعاون أجهزة أمن عباس تمكن جهاز المخابرات الداخلية الصهيونية "الشاباك" العام الماضي فقط من إحباط 480 عملية حاولت حركة حماس تنفيذها إلى جانب تفكيك واعتقال 219 خلية تابعة لها؛ إلى جانب إفشال 560 محاولة لتنفيذ عمليات فردية.
ويرصد تقرير صادر عن مجلة "معرخوت" الناطقة بلسان الجيش الإسرائيلي عوائد التعاون الأمني، التي تمثلت في تحسين البيئة الأمنية في الضفة الغربية بشكل كبير، وضمن ذلك البيئة الأمنية للمستوطنات؛ وتقليص الأعباء على جيش الاحتلال مما يسمح له بالتفرغ لإجراء المناورات والتدريبات، ناهيك عن أنه أسهم في تمكين (إسرائيل) من الاستعداد لمواجهة على جبهات أخرى وضمن ذلك نقل القوات إليها.
وفي إطار التعاون الأمني مع (إسرائيل)، عمدت السلطة الفلسطينية إلى تجفيف منابع دعمها المالي عبر المصادقة على "الاستراتيجية الوطنية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب"؛ التي بموجبها تم إلزام النظام المصرفي الفلسطيني بعدم السماح بفتح حسابات لأشخاص ينتمون لحركة حماس، بحجة أنهم ينشطون في مجال نقل الأموال لدعم العمل المقاوم المسلح.
في الوقت ذاته، شنت أجهزة أمن السلطة وجهاز المخابرات الداخلية الإسرائيلي "الشاباك" حملة ضد الجمعيات الخيرية العاملة في الضفة الغربية بحجة أنها تستخدم في نقل الأموال لأشخاص ينتمون لحماس في الضفة الغربية؛ مع العلم أن (إسرائيل) تقر بأن هذه الأموال توجه لدعم عوائل المقاومين الذين قتلوا برصاص الاحتلال أو المعتقلين في السجون الإسرائيلية
وقامت الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة بأنشطة وقائية تتضمن مداهمة المدارس الفلسطينية وتفتيش حقائب الطلاب ومصادرة السكاكين منهم خشية أن يستخدموها في تنفيذ عمليات الطعن ضد جنود الاحتلال ومستوطنيه.
للأسف إن ما تقوم به السلطة حاليا هو نتاج الجهود التي بذلها الجنرال الأمريكي كيث دايتون، فهو لم يعمل فقط على مأسسة التعاون الأمني بين (إسرائيل) والسلطة وجعله أكثر جدوى فحسب، بل حرص على أن تسهم دورات التدريب التي أشرف عليها في فرض عقيدة أمنية جديدة على المؤسسة الأمنية في السلطة، بحيث يفضي تشرب منتسبي الأجهزة الأمنية الفلسطينية تلك العقيدة إلى "صناعة الفلسطيني الجديد"، الذي يرى في إحباط العمل المقاوم ضد الاحتلال مصلحة وطنية له.
وعلى الرغم من المسوغات التي تدفع السلطة لمواصلة التعاون الأمني إلا أن تواصل هذا النمط من العلاقة مع الاحتلال لا يسهم في تحقيق الأهداف الوطنية للشعب الفلسطيني؛ سيما في ظل وجود حكومة إسرائيلية تنتمي لليمين المتطرف، تجاهر بعزمها على حسم مصير الأراضي الفلسطينية المحتلة. وهذا يعني أن مواصلة السلطة الفلسطينية التعاون أمنيا مع الاحتلال في مواجهة المقاومة يعني تحسين قدرة حكومة اليمين المتطرف على تنفيذ برنامجها في أقل مستوى من الممانعة الفلسطينية.
وعلى كل الأحوال، تبين أن الالتزام بتنفيذ استحقاقات الاتفاقات الموقعة مع (إسرائيل) وضمنها التعاون مع (إسرائيل) بعد 25 عاما على توقيعها، لم يقرب الفلسطينيين من تحقيق البرنامج السياسي لعباس المتمثل في إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.
وفي ظل صعود اليمين بشقيه الديني والعلماني للحكم في (إسرائيل) وتولي دونالد ترامب مقاليد الرئاسة في الولايات المتحدة لم يعد بالإمكان الرهان على المفاوضات كمسار يمكن أن يفضي إلى تحقيق الحقوق الوطنية، مما جعل السلطة منغمسة فقط في مناشط التعاون الأمني.
لقد منح هذا الواقع (إسرائيل) البيئة الأمنية التي مكنتها من تكريس احتلالها للضفة الغربية عبر إرساء الوقائع الاستيطانية على الأرض، فقد قفز عدد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية من 134400 مستوطن عند تشكيل السلطة الفلسطينية عام 1994 إلى 423400 مستوطن حاليا؛ أي أن عدد المستوطنين اليهود تضاعف منذ التوقيع على أوسلو أكثر من ثلاثة أضعاف.
من أسف، فإن التعاون الأمني الذي تلتزم به السلطة يحسن فرص اليمين الصهيوني بالفوز مجددا لأنه يوفر بيئة أمنية في الضفة تدلل على نجاح سياسات هذا اليمين.