بعد حكم «عمر البشير» الذي دام ثلاثين سنة خرجت جموع المتظاهرين في السودان بعفوية شعبية مطالبة بالحرية. واجتاحت مواقعَ التواصل الاجتماعي صورةُ الثائرة الملقبة بـ «الكنداكة»، وهو لقب الملكات النوبيات في السودان قديمًا، وهي تهتف للحرية والثورة.
تعالت صيحات الابتهاج عقب تنحية الرئيس، بينما وقف أحد المتظاهرين محذرًا من «سرقة الثورة» بعد أن أعلن الجيش السوداني عزل البشير، وإعلان حالة الطوارئ؛ فما قيمة ثورة إن لم تنتقل السلطة فيها إلى سلطة مدنية؟
في ظل الثورات العربية المعاصرة تتردد في الأنحاء تساؤلات تعبر عن حيرة بالغة: فهل كانت الثورة حلًّا لا بد منه؟ وإن كانت كذلك فلماذا هزمنا وظلمنا؟
تتردد أصداء هذا التساؤل في ثنايا رواية «شوق الدرويش» التي تناثرت أحداثها إبان الثورة المهدية في السودان (1880- 1890)، تلك الثورة التي جاءت انتفاضة على سيطرة الإنجليز والمصريين والأتراك على السودان. لكن كما يشير إريك هوفر، في كتابه «المؤمن الصادق: أفكار في الحركات الجماهيرية»، فإن أتباع الحركات الجماهيرية يحتاجون إلى معجزة تعزز إيمانهم بحركتهم، سواء أكانت حركة علمانية أم دينية، وهذا ما حدث في الثورة المهدية التي استندت على بعث فكرة المهدي المنتظر عند أتباعها، وأن قائدها هو المهدي الذي جاء لينقذ الإسلام وأهله، ويحرر مكة وبلاد الشام من الأتراك وغيرها من الظلمة. وكعادة الثورات التي تبدأ من أجل غاية نبيلة، يستغلها بعض المنتفعين لتحقيق مآربهم الخاصة.
قد تكون رواية جورج أورويل الرمزية الشهيرة «مزرعة الحيوان» خير مثال على سرقة الثورات، وكيف أن الثورة أكلت نفسها، حين تحول «الخنزير» نابليون إلى ديكتاتور مطلق الصلاحية.
ما يحمي الثورة من السرقة هو وجود رقابة مدنية، تحد من السلطة المطلقة للحاكم، وتمتلك شرعية محاسبته وعزله إن اقتضى الأمر. لكن ما حدث في ثورات ربيعنا العربي هو أن تلطخت يد الثورة بالدم من أجل نشر العدل، فهل يستوجب العدل بعض الشر لينتشر؟! وهل أحقية أهل الثورة بمطالبهم تستوجب لزوم النصر؟
تلك هي العتبة التصديرية التي افتتح بها الكاتب روايته. كنت أظن أنني أمام عمل صوفي يحاكي في مضمونه رواية «قواعد العشق الأربعون»، فقد كان تصدير الرواية بعبارة ابن عربي معززًا لذلك التوقع، وإذا بالمفاجأة تتبدى!
نص أدبي بلغة شعرية يسردها راوٍ كلي الوجود، نسج خيوط شخصيات روايته بطريقة لا يمكن تمثلها في الواقع الحي، قد تكون اللغة الشعرية التي اختارها الكاتب نمطًا لكتابة روايته هي المسئولة عن ذلك، فانحيازه إلى اللغة الشعرية – التي عدها الكثيرون من نقاط قوة الرواية نظرًا لجماليتها العالية – قد سلبت من الشخصية الروائية طابعها الخاص، فلا تعكس أقوال الشخصية مثلًا حقيقة مستواها الاجتماعي أو الفكري، فالدرويش البسيط يتكلم بطريقة تماثل شخصية ثيودورا اليونانية الراهبة في البعثة الكنسية، وتشبه أسلوب حديث إدريس بائع الخضار، وطريقة تحدث الشيخ إبراهيم ود الشواك. فالتفاوت في مستوى اللغة على ألسنة الأبطال بما تتناسب مع الشخصيات وتباين مستوياتها، يعد عاملًا مهمًّا في بناء الشخصية الروائية، ففي روايات نجيب محفوظ مثلًا نجد أن حديث «الفتوَّة» يختلف في مستواه عن شخصية أخرى مثقفة.
اعتمدت الرواية على الانتقال الزمكاني (الزمني والمكاني) للأحداث، هذا التنقل المستمر من عناصر التشويق في البناء الروائي ما دام أحسن توظيفه. فحينًا نكون في خضم أحداث الثورة في مدينة أم درمان، ثم نجد أنفسنا في الصفحة نفسها فجأة مع عائلة ثيودورا في الإسكندرية، وفي أدنى الصفحة ننتقل إلى واقعة أسر بخيت منديل التي حدثت بعد موت ثيودورا بسبع سنين.