محمود جودة
بدأ ذلك الصباح بحملة تفتيش عن كرت المؤن والهوية، وهذه سُنّة مؤكدة، فلابد من ضياع الأوراق يوم أن تحتاج إليها.
بعد تلك الحملة المزعجة، لم نعثر على كرت المؤن الأصلي، بل عثرنا على صورة طبق الأصل عنه، و على الهوية، وذهبت إلى أحد الشبابيك في (سنتر المؤن) كي أستخرج بدل فاقد عن إشعار الاستلام الذي لا أستطيع من دونه تسلم المخصصات، فقالت لي الموظفة بشيء من الترفع وهي تنظر نحوي بإزدراء واضح: "الإشعار ما بنطلعه إلا مرة وحدة بس .. مع مد السين الأخيرة. وبعد أخذ ورد، رفضت أن تستخرج لي بدل فاقد.
ضحكت لطريقة تعاملها، مع أنها لاجئة مثلي! وذهبتُ إلى شباك آخر، فكانت موظفة أخرى، أخذت مني صورة كرت المؤن وأخبرتها أن الإشعار القديم قد ضاع، فقالت: "مش مشكلة"، وكتبت على صورة الكرت بعض الأرقام ووجهتني بأن أذهب لأستلم الكابونة.
تهلل وجهي فرحًا، أخيرًا سوف أستلم الكابونة على اسمي الشخصي، سأصير لاجىء حقيقي، سأتمرغ في الطحين والزيت وأصوات البائعين، وأتعثر بأكوام الناس المنتظرة على الشبابيك، وأستمع إلى النداءات: فلان الفلاني، هات الكارة، شيل، .... أمك، عَمى يعميك اطلّع قدامك، هاد دوري مش دورك، حُطلي ياهم في كيس وووو .
على شباك الختم.
مددت صورة كرت المؤن والهوية، فالتقطها مني صديق لي يعمل في المؤن وهو يبتسم بحرج، ويمد نحوي دفتر صغير لأبصم مقابل اسمي كتأكيد بأنني استلمت الكابونة، دون أن يتكلم، فبصمت! جميل أن تكون كاتبًا، ويُطلبُ منك أن تبصم بدل أن توقع، قلتُ في عقلي وأنا أبصم وأمازح صديقي الذي أصابه الحرج، ولكنها التعليمات!!
ورحت أنتظر أن يفتح أول شباك كي أستلم الطحين، وبعده الشباك الثاني لأستلم الحليب والزيت، والشباك الثالث لأستلم الأرز والعدس، أنجزنا كل تلك المعاملات بتراتبيّة رائعة فلا مجال هناك للكسل والتراخي؛ فسوف ينهركَ الموظف وربما يشتمك، كاد أن يحدث معي ذلك وأنا أستلم الطحين؛ حيث قال لي الموظف بعد الاستلام:"يلا اطلع برا" نظرت نحوه وضحكتُ أيضًا، مع أنني في طريقي للخروج ولم يكن لكلمته أي لزوم، ولكنها أصبحت ديباجة يحفظها، وربما يقولها حتى لو دخل عليه عصفور طائر.
حملنا أنا وأخي تلك الغنائم على الكارة الحديدة (أم عجلين)، وسحبناها في وسط الشارع .. المنظر جميل جدًا، وبائس جدًا أيضًا .. ومُذل بشكل لا يُحتمل، لكنني كنت أضحك!
شيء وحيد كان في بالي وقتها: لو أنّ أجدادنا رفضوا أن يكونوا بهذا الذل منذ أكثر من 71 عامًا، لما اضطررت أن أقرأ التعليمات المعلقة على الجدار، ولما اضطررت أن أبصم والقلم في جيبي.
على الرصيف المقابل، رأيت فتاة طلبت مني ذات مرة أن أوقع لها بخط يدي على كتابي الأخير الذي اقتنته، رأيتها تسرق النظرات نحوي متحرجة من طرح السلام، فأكملت بدوري المسير، بعد أن ألقيت القلم الذي كان يحتل جيبي دون عمل