لعصيان المدني هو تعمُّد مخالفة قوانين وطلبات وأوامر محددة لحكومة أو قوة احتلال دون اللجوء للعنف. وهو من الأساليب المركزية للمقاومة السلمية، وأحد الطرق التي ثار بها الناس على القوانين الجائرة.
واستخدِم العصيان في حركات مقاومة سلمية للاحتلال، وحملات شعبية من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية ونيل الحقوق المدنية.
الدلالة والنشأة
العصيان المدني" هو الرفض المتعمَّد والعلني والسلمي لطاعة الأوامر أو القوانين الظالمة التي تسنها أو تطبقها سلطة تنتهك الحقوق العامة للشعب، أو تقصر في تحقيق مصالحه، أو تنتهك الأهداف الأساسية والقيم الحاكمة لنظامه الدستوري.
ويحيل المفهوم إلى جملة من المعاني التي تلازم طبيعته وهدفه، مثل ضرورة اتسام رفض طاعة القوانين الظالمة بكل خصائص التمدّن من كياسة مع الخصم واستعداد للحوار معه، وأن يكون العصيان غير مسلح ولا عنيفا، وتجنب مناهضة قوانين عادلة أو توخي غايات إجرامية من وراء عصيانها. وقد يكون رفض طاعة القوانين شاملا أو محدودا في مكانه وزمانه ومجاله.
وهكذا فإن العصيان المدني على الصعيد الفردي موقف مبني على جملة من القيم أساسها رفض الظلم والخضوع للطغيان، ويصب على الصعيد الجماعي في تحرك سياسي يتسم بالوقوف الثابت والمنظم والعلني والمتواصل في وجه كل القوانين المضادة للحقوق الشرعية للفرد والمجتمع.
والعمل على تعطيل هذه القوانين الجائرة وإزالتها بكل الوسائل السلمية دون غيرها، من خلال الامتناع عن تنفيذ أوامر السلطة والتوقف عن دفع الضرائب ورسوم الجمارك والموارد المالية الأخرى.
وقد مر "العصيان المدني" مرّ بثلاث محطات رئيسية:
المحطة الأولى
هي ولادة المصطلح على يد الفيلسوف والشاعر الأميركي هنري ديفد تورو (1817-1862)، الذي كان من أكبر المناهضين للعبودية في بلاده وسخّر حياته للدفاع عن العبيد الفارين. ففي عام 1846 سُجن لرفضه دفع الضرائب محتجا بمعارضته للسياسة الأميركية ومنها الحرب ضد المكسيك.
وتورو هو أول من استعمل المصطلح ونظّر له في كتابه الشهير "العصيان المدني" الذي يقول فيه: "لو رفض ألف دفع ضرائبهم، فلن يكون هذا عملا دمويا خلافا للدفع الذي سيمكّن الحكومة من مواصلة الحروب وإراقة الدم البريء. ها قد أصبحت الثورة السلمية ممكنة. وإن سألني جابي الضرائب ماذا أفعل؟ فسأقول له: استقل. وعندما يرفض المواطن الطاعة ويستقيل الموظف فإن الثورة تكون قد نجحت".
المحطة الثانية
هي تأثرُ الزعيم الهندي المهاتما غاندي بأفكار ديفد تورو ومحاولته تطبيقها عبر ملاحم مقاومة معروفة، منها مطالبته عام 1906 العمال الهنود في جنوب أفريقيا برفض إعطاء بصماتهم تطبيقا لقانون عنصري.
ومن ذلك أيضا دعوته عام 1930 مواطنيه الهنود إلى مقاطعة الملح الذي كانت جبايته مصدرا هاما لخزانة السلطات الاستعمارية البريطانية، فقاد الجماهير نحو البحر ليستخرجوا منه ملحهم، ثم أتبع ذلك بصرخته المعروفة: "غادروا الهند" التي انتقل بها من رفض القوانين الاستعمارية إلى المناهضة السلمية للاستعمار نفسه.
المحطة الثالثة
هي معركة الحريات المدنية التي قادها الزعيم الأميركي الأسود مارتن لوثر كنغ في ستينيات القرن العشرين برفض الانصياع للقوانين العنصرية للولايات الجنوبية في أميركا.
دوافع متعددة
تعددت مظاهر وتطبيقات العصيان المدني منذ بداية القرن العشرين في بلدان كثيرة وخاصة في الدول الغربية، من بينها فرنسا وإيطاليا وبريطانيا وألمانيا، سواء تعلّق الأمر برفض القوات المتحاربة مواصلة إطلاق النار في الحرب العالمية الأولى، أو في فرنسا حيث دعم البعض استقلال الجزائر، أو في ألمانيا حين منع العصاة المدنيون تحرك النفايات النووية. كما استخدِم في جنوب أفريقيا لمقاومة الفصل العنصري، وانتهجته حركات السلام في أنحاء العالم.
واعتمدت شعوب كثيرة -في مقاومتها السلمية لأنظمة الطغيان والاستبداد والفساد- على فعاليات وآليات العصيان المدني في التعبير عن مطالبها الحقوقية والدستورية، واحتجاجها على تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، ومساعيها السلمية للتغيير السياسي من أجل نيل حقوقها السياسية والاقتصادية وإطلاق الحريات العامة، وإلغاء المحاكم والقوانين الاستثنائية واستقلال القضاء، والحفاظ على حقوق الإنسان ومنع التعذيب، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة.
ويرى باحثون سياسيون أن العصيان المدني ظاهرة لا يمكن أن توجد إلا داخل نظام ديمقراطي يتيح إمكانية الضغط المتواصل عليه حتى لا يحيد عن مساره في السعي إلى مزيد من الديمقراطية، بل ويقول بعضهم إنه مفهوم أميركي حتى النخاع مذكّرين بروح إعلان الاستقلال الأميركي عام 1776.
حقائق بديهية
ويستشهد هؤلاء بما كتبه أبرز كتاب هذا الإعلان الرئيس الثالث لأميركا توماس جفرسون (1743- 1826): "نحن نعتبر هذه الحقائق بديهية بطبيعتها.. أن كل البشر يولدون متساوين، وأن الله حباهم بحقوق غير قابلة للتصرف، منها حق الحياة والحرية والبحث عن السعادة، وأنهم يستعملون لضمان هذه الحقوق حكومة تستقي حكمها الشرعي من رضا المحكومين. لكن إذا عنّ للحكومة -أيا كان شكلها- تجاهل هذه الغايات، فإنه من حق الشعب إلغاؤها وإنشاء حكومة جديدة".
ويعللون رأيهم هذا بأن النظم الاستبدادية تمنع استباقيا أي حركة احتجاجية جماهيرية تستوفي مواصفات العصيان المدني، أي التنظم العلني والمتواصل لإنهاء القوانين المنافية للحقوق بما أنها ركيزة وجودها.
كما أن سياسات القمع التي تنتهجها هذه الأنظمة تضعف وتشل المجتمع المدني القادر على قيادة وإدارة مثل هذا العصيان.
هذا إضافة إلى تشبع الشعوب الخاضعة للاستبداد غالبا بثقافة الطاعة والخنوع، وتفنن الحكومات في مقاومة دعوات العصيان المدني بتعمد تشويه منظميها عبر وسائل الإعلام المختلفة والمؤسسات الدينية التابعة للسلطة، وتصوير أنشطتهم بأنها نوع من التخريب وليست مظهرا مشروعا للضغط السلمي على الحاكمين، بل وتهديد القائمين عليها بالتصفية الجسدية والضرب ومصادرة الممتلكات.
المصدر : الجزيرة