حسب التحديثات الأخيرة، ستذهبُ غالبية الحكومات العربية إلى مؤتمر المنامة (الورشة الاقتصادية)، هكذا صرّحتْ الدوائر الرسمية الأميركية. يحدثُ ذلك، على الرغم من الرفض الفلسطيني؛ الرسمي والفصائلي والشعبي. من المُفترض أنّ الفلسطيني صاحب القضية هو من يُقرّر ما يتناسب مع مصالحه وثوابته الوطنية، ولكن الذهاب العربي إلى المؤتمر، على الرغم من المناشدة الفلسطينية بالمقاطعة، لا يُمكن تفسيره، إلّا أنّه طعنة غدر عربية في ظهر الفلسطيني، إذ لا يوجد ما يُبرّر الحضور العربي، إلا الخنوع للإرادة الأميركية والصهيونية، فالمنطق والحس القومي (والديني أيضًا) يقولُ إنّ المشاركة في المؤتمر تُمثّل مشاركة في المؤامرة وتمريرها، بمنحِها غطاءً عربيًا رسميًا.
ينص بيان المجلس المركزي لحركة فتح (كبرى فصائل منظمة التحرير الفلسطينية)، على رفضِ صفقة القرن وورشة البحرين الاقتصادية، ويؤكّد أنّ الحركة دعتْ كل من أعلن أو يُفكّر في المشاركة ألّا يفعل، كي لا يُشرعن سياسة الإدارة الأميركية في تصفية القضية الفلسطينية، ويُشكّل شبكة أمان لإدامة احتلال فلسطين، وأضاف البيان: "نوجه رسالة واضحة لكل من تسول له نفسه أن يكون أداة في يد الإدارة الأميركية، فنحن لم نفوض أحدًا ولن نفوض أحدًا، للحديث باسمنا في أي محفلٍ دولي".
بعد هذا البيان الصريح، كيف يقبلُ العرب على أنفسهم المشاركة والتعاون مع المحتل في كسر إرادة الشعب الفلسطيني وضياع حقوقه التي كفلها بدمائه وتضحيات أبنائه، على مدار قرنٍ؟ هل يُشاركون في مراسمِ دفنِ القضية الفلسطينية، وهي تمثّل كرامتهم، ومفتاح أمنهم القومي واستمرار وجودهم؟ هل يُعقل بعد أن اعترفت الإدارة الأميركية بالقدس، وهي أحد أهم مقدسات العرب والمسلمين، عاصمةً أبديةً لدولة الاحتلال، وصرّحت بأن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) يجب أن تنتهي؟ وأنّ اللاجئين هم فقط من شُرّدوا نتيجة حرب فلسطين عام 1948، وعددهم لا يتجاوز الخمسين ألفًا فقط، بينما أبناؤهم وأحفادهم المُسجّلون في كشوف "أونروا" ليسوا لاجئين! بل واعترفت إدارة ترامب بالجولان السوري المحتل جزءًا من كيان الصهاينة، وصرّحَ سفير الولايات المتحدة في إسرائيل، فريدمان، بأنّ من حقِ الأخيرة ضم أجزاء من الضفة الغربية إليها.
ما الذي يريدُ العرب سماعه من جاريد كوشنر وجيسون غرينبلات وديفيد فريدمان؟ ألم يدلوا
بتصريحاتٍ علنيةٍ بشأن مضمون صفقتهم؟ ألم يُطبّقوا بعضًا منها بقرارات من دونالد ترامب ذاته؟ ألم ير العالم تطبيقات الصفقة في احتفاليات رسمية علنية؟ إذن، لماذا يذهبون إلى مؤتمرٍ يستهدف إنهاء قضية الشعب الفلسطيني؟ ألم يُقدّم الفلسطيني كل ما طلبه العرب في سبيل السلام، ولكي يحافظ على أمنهم، لقلة حيلتهم في المواجهة، وهروبهم نحو تسوياتٍ جزئية منفردة ومذلّة؟ وقبلَ نسبة 22% من أرض فلسطين التاريخية فقط، ليُقيم عليها دولته، استجابةً لمبادرات قدمتها السعودية، وحثتهم على قبولها مصر وكل أقطار العرب، منذ عام 1981؛ أي مبادرة الأمير فهد، وتاليًا في مقرّرات قمة فاس 1982 التي صاغتها وأخرجتها السعودية أيضًا، ومن ثمّ مبادرة الأمير عبد الله بن عبد العزيز، التي أطلقَ عليها المبادرة العربية للسلام عام 2002، وأصبحت فيما بعد إسلامية أيضًا، لتنصَّ على أنّه لا تطبيع مع العدو الصهيوني إلا بالموافقة على بنود المبادرة؟ "كيف يحدُث ذلك؟ هذا هو السؤال المطروح حاليًا في الأوساط الرسمية والشعبية الفلسطينية.
واضحٌ أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي دافع بشراسةٍ عن السعودية وموقفها من قضية فلسطين وصفقة القرن، وبرّأها في منابر كثيرة، وأهمها المؤتمر الإسلامي الخاص بالقدس في إسطنبول (2018)، يشعرُ بالصدمة، فقد خدعتهُ المملكة، ممثلةً بولي عهدها، الأمير الشاب محمد بن سلمان، صديق كوشنر الصهيوني المُتطرّف. لقد أثبتت المملكة له أنّ كل ما قيل عن موقفها إسرائيليًا، بمجاراة الموقف الأميركي، صحيح، فهي عرّاب ورشة البحرين، فهذه المملكة الصغيرة لا تقطعُ أمرًا من دون موافقة الرياض، وهذه أعلنت عن مشاركتها في الورشة فور الإعلان عنها، هي وحليفتها الإمارات، ما يدلّ على أنّ التسريبات الإسرائيلية عن أنّ المملكة وافقت على تمرير صفقة القرن، صحيحة.
أمِلَ الرئيس عباس بموقفٍ مُخالف ورافض للصفقة، موقف جدّي لا إعلامي، أو مجرّد بيانات لقممٍ ومؤتمرات وزارية، لا تساوي الحبر الذي كُتبت به، لكنّ السعودية صاحبة المبادرة خذلتهُ، مع أنّها هي من دفعَ الفلسطيني إلى القبول بما قبل به طوال العقود الماضية.
لم يكن الفلسطيني قد استفاق من الصدمة الأولى، حتّى تلقّى الثانية، وهي الأعنف في تصريحات كوشنر عن موافقة مصر والأردن والمغرب، الثلاثة الذين كان متوقعا مقاطعتهم المؤتمر، فذهاب هذه الدول يعني أنّ الصفقة ستمرُ عربيًا. ومرورها عربيًا سيُحدث وضعًا دوليًا ضارًا بالقضية الفلسطينية، إذ لن يكون العالم عربيًا أكثر من العربِ، مع
شقيقهم الفلسطيني. ومع الصدمة، حاولَ القادة الفلسطينيون التعبير عن استيائهم بدرجات متفاوتة، ومتناقضة أحيانًا، عبر تصريحات لقادة من حركة فتح، الأول نبيل شعث الذي نفى أن يكون الأردن قد أخبرَ
القيادة بموافقته على الذهاب إلى ورشة المنامة، وأنّ ذلك يُمثّل مفاجأةً، بينما زعمَ زميله عزّام الأحمد أنّ ذلك لم يكن مفاجأة، فلن تُمثّل مصر والأردن، إلاّ بوفودٍ رمزية! ويبدو ساذجًا تعبير الأحمد، وكأنّ حجم التمثيل أو مستواه هو المهم. الغطاء العربي هو المهم، فبدونه لا صفقة، ولا قيمة للمؤتمر/ المؤامرة. .. هي مفاجأة، كون الأردن الراعي للأماكن المقدسة في القدس، والمغرب رئيس لجنة القدس، ومصر أكبر دولة عربية، قادت مسيرة "التسوية السلمية" وزعيمة العرب بكلِ الأحوال، على الرغم من انحسار دورها القيادي بعد اتفاقية كامب ديفيد.
يُحمّل بعضهم القيادة الفلسطينية مسؤولية عدم القدرة على حشدِ موقف عربي رافض للصفقة، وفي ذلك ظلم، فقد شاهدنا الرئيس الفلسطيني ووزارة الخارجية في المؤتمرات الوزارية، والقمم العربية والإسلامية، بل وعبر جولات مكوكية، يناشدون الزعماء العرب وغيرهم، ويشرحون مخاطر الصفقة على القضية الفلسطينية. ونسبت صحيفة هآرتس العبرية لدبلوماسيين عرب قولهم إنّ موضعَ القلق الرئيسي لعباس يكمن في احتمال أن تتمكّن الإدارة الأميركية من إقناع بعض الزعماء العرب بتغيير نهجهم، من خلال منحهم امتيازات اقتصادية وأمنية، قائلين إنّ الرئيس الفلسطيني يعوّل على الملك سلمان بن عبد العزيز، الذي يُعرف بموقفه التقليدي إزاء القضية الفلسطينية، وتعهّد بالوقوف إلى جانبِ الفلسطيني.
واضح، إذن، أنّ الإغراءات الاقتصادية والتهديدات الّتي خشيَ من تأثيراتها الرئيس الفلسطيني على الزعماء العرب، قد فعلتْ فعلها عندهم، فأعلنوا، بالتتابع، موافقتهم على الذهاب إلى المؤتمر/ المؤامرة.
مثّلَ العربُ دائمًا الرافعة للقضية الفلسطينية، فالقاطرة الفلسطينية لطالما سارتْ ضمن سكّة عربية، والعرب هم الذين فتحوا لفلسطين أبواب العالم، وقدّموا لها دعمًا ماليًا وسياسيًا وعسكريًا، ولكن زعماء العرب اليوم ليسوا مثل أقرانهم في القرن الماضي، ولا بتلك الفحولة السياسية، والجُرأة على تحدّي الإرادة الأميركية. يبقى القول إن لا أحد يستطيع فرض إرادته على الفلسطيني، صاحب الحق المُطلق بالقبول أو الرفض، وإن قال: لا، فهذا يعني لا، ولن يمر شيء، وستتكسر المؤامرة على صخرة صموده، ويُكلل بالعارِ كل من يتآمر مع العدو على شقيقه الذي حمى بصموده العرب على أرض وطنه أجمعين. وعلى مدار قرن، منع العدو من التمدّد، ومن تحقيق حلمه بدولةٍ تمتد من النيل إلى الفرات. خلاصة القول: من يغدر بالفلسطيني يطعن نفسه.