كان ممتلئًا بصوت أدهم، بتعاريج وجهه، تارة يسأل المارة نحو مدخل مشفى الشفاء " فيه ولد أشقراني وصل.. في ولد مصاب؟"، وتارة أخرى تحاول نبضات قلبه المتسارعة نفي ذاك الشعور بأنه قد فقد روحه هذه المرة!
مرة وثالثة وعاشرة ظل يسأل رجال الإسعاف وطاقم التمريض عن أسماء الجرحى الذين وصلوا مؤخرًا من الحدود عصرًا، إلى أن منعه أحد الأطباء من الاقتراب أكثر من قسم الاستقبال، فالجميع هنا يؤكد "لم يصلنا جريح باسم "أدهم عمارة"!
ماذا عن تيبس أطرافه إذًا، وصوت ابنه الذي رافقه حتى نهاية ممر" الطوارئ"، لاسيما أن الأمل بإمساك يد صغيره والعودة معًا ليطعما الحمام كان حاضرًا قبل أن يدرك فجأة أن فيض الضوء المتسرب من وجه أدهم قد اختفى حينما كُتب على صدر جثمان محكم الإغلاق بغلاف بلاستيكي "مجهول الهوية"!
الطفل الشهيد أدهم أمام منزله بغزة
قنبلة إسرائيلية!
عينان تائهتان بين زرقة بحرك يا غزة، وعشب أرضك هذا الربيع، عينان حاولتا أن تمحوا من ذاكرة غزة حقد قنبلة (إسرائيلية) اخترقت رأسه بوحشية، عينان دون وجه كامل، عينان تنظران للسماء، أرسلت القشعريرة لوجوهنا الكاملة، وزعتها بالتساوي علينا ثم غادرت لتنام بسلام!
منذ الصباح همّ أدهم نضال عمارة ابن الــ16 عشر ربيعًا لتجهيز نفسه للمشاركة في "جمعة مليونية الأرض والعودة" الثلاثين من آذار الماضي في مخيم "ملكة" شرق مدينة غزة، يحمل علمًا كما يفعل الصغار هناك، أو يحاول رفع إصبع سبابته والوسطى في وجه قناص على الحدود عله يغتاظ، كانت الأمور تسير عكس ذلك فملابسه المحببة له وقت الخروج من المنزل مبللة "في الغسالة"، وزوجة والده أغلقت باب المنزل عليه حتى لا يتجه "للحدود! "أدهم بدي إياك" وصل تكرارها عبر أسلاك الهاتف، ووالده يكرر الطلب بألا يذهب، إلا أن الصغير أجابه "إلى بعيش بشوف التاني يا أبوصقر". "أبو صقر" كانت الكنية المحببة لأدهم ينادي بها أباه بدلاً من "يابا"، يمازحه ويحدثه ويشكي له كل الهموم، "أبو صقر" هي كل الذكرى التي بقيت لــ"نضال" الأب من ابنه الراحل.
والد الشهيد أدهم بعد إلقاء نظرة الوداع على ابنه
كرسيان متقابلان!!
يحوم قلب الأب حول جثمان ابنه مودعًا، كما تفعل حمامات أدهم التي رافقت موكب جنازته كما قال الأب لــ "الرسالة".
عن الكرسيين المتقابلين حدثنا وأطال الحديث، "هنا أجلس وهناك كان أدهم"، عن بيت الحمام فوق سطح منزلهم، ورعاية ابنه لها، والمواظبة على إطعامه، عن كل شيء فقده برحيل ابنه، عن سؤال لم يجد إجابة له " ليش قتلوا أدهم؟" عائلة عمارة التي تقطن بمنطقة "الشعف" شرق مدينة غزة أدركت الاعتداء الإسرائيلي المتعمد بحق الأطفال المشاركين على الحدود قبل عام كامل إبان إصابة شقيقي أدهم "صقر ومحمد" منذ بداية مسيرات العودة، ولم تندمل جراحهما بعد، حيث يحتاج كل منهما لإجراء عمليات بالخارج لإتمام العلاج.
اشتد عليه الشوق فصمت وترك لنا مقطعًا مصورًا كان قد التقط لابنه قبل إصابته بقنبلة غاز إسرائيلية أخفت معالم وجهه، ثم يعود ليكسر الصمت فجأة ويخبرنا:" كان عمر أدهم 3 سنوات لما ماتت أمه"، لم تكن جملة اعتراضية، كانت وجعًا مخبأ اندفع مرة واحدة بعد الغياب!
الصمت ظل ملازمًا له كذلك عند سؤال الطبيب " شو اسم ابنك؟" "كيف عرفت إنه ابنك؟"، ورفضه أن يكشف له الغطاء عن الجثمان، لم يجد الأب داعيا لأي إجابة عن كل الأسئلة، أخبرنا فقط:" بعرف ولادي حتى لو كانوا بُخار"!!
أطلت رؤوس النسوة من الشرفات فور سماعهن ترانيم النشيد الملتصق بجنازات الشهداء في وطننا "وداعا.. وداعا.. وداعا.. أهلي رفاقي وداعا"، في حين رافقتنا صور أدهم على جدران بيتهم، كان حاضرا على مداد البصر، كما فعلت شقيقته الصغرى "أمل" وهي تبتسم لنا وكأنها تنشر رسائل اطمئنان لقلب أمها "أدهم راح ع الجنة"!
"لا يغيب مشهد الغطاء الأبيض الملفوف حول جثمان ابني، كيف لي أن أنسى كلمتين كتبتا باللون الأحمر على صدره "مجهول الهوية"، ماذا أفعل اليوم وحدي مع طير الحمام فوق السطح، كيف تبدو الحياة دون ضحكات أدهم، ثم ختم الأب "ماذا أـفعل بصورته الأخيرة "عينان دون وجه كامل"!.
هذا ما خلفته قنبلة غاز اسرائيلية في وجه الطفل أدهم