صابر المنتصر -تونس
يدقّ قلبي دقّةً عالية. دقّةٌ واحدة كلَّ ثانية. أعضائي الثلاثة الخارجيّة تتحرّك في شكل دائرة: العقرب الأطول يُسرع في حركاته كثيرًا، العقرب المتوسّط يتحرّك بنسقٍ متوسّط، العقرب الأخير هو الأقصر والأثقل حركةً. أنام وأصحو على طاولة الصالون. يشاركني مكانَ نومي مفتاحُ سيّارة، وعلبةُ سجائر، وقدّاحة. يسمح لي ذلك المكانُ بمراقبة أغلب التحرّكات في المنزل. أنتظرُ أن تستيقظ سيّدةُ البيت، "آني." تتوجّه إلى الحمّام أوّلًا، ثمّ إلى المطبخ. تُعِدّ فطورَ الصباح، وتضع كلَّ شيء إلى جانبنا، على الطاولة. في بعض الأحيان تغيّر مكانَنا نحو طاولةٍ أخرى، أصغرَ وأقلَّ ازدحامًا. يستيقظ بعد ذلك مَن أُحبّ يدَه اليمنى كثيرًا. اسمُه غسّان.
نحبّ، نحن معشرَ الساعات، هذه الحياة. هدفُنا ألاّ يتوقّف قلبُنا عن العمل أبدًا. نحبّ أن نعطي مالكَنا التوقيتَ الصحيحَ دائمًا. يتعامل معي غسّان بلطفٍ شديد. من المستحيل أن يغسل يديه قبل أن يضعني جانبًا. يخاف عليّ كثيرًا من الماء؛ فهو عدوّنا المباشر. يغيّر لي ملابسي الجلديّة قبل كلِّ صيف. بعد أن يتحمّم في الصباح يضعني على يده اليمنى، ويداعب مقبض النابض حرصًا على بقائي على قيد الحياة.
أشيرُ الآن إلى الثامنة صباحًا. يشرب غسّان قهوتَه بعد أن تناول قليلًا من الخبز والزيت والجُبن. يدخّن أكثر من سيجارتين بعد فطور الصباح. غالبًا ما تُذكّره زوجتُه آني بحقنة الأنسولين. يعدّلها صباحًا على 6 مليمترات. يتناولها بيده اليمنى، ويحقنها في بطنه. عندما تكون آني غائبةً أُحبُّ أن أذكّره بموعد الأنسولين، إلاّ أنّي أعجز عن ذلك. كنتُ دائمًا أوّلَ مَن يَعلم أنّ نسبة السكّري في دم غسّان قد تراجعتْ إلى أدنى حدودها. جسدُه يتعرّق كثيرًا، ودقّاتُ قلبه تتسارع. أُحسّ كلّ ذلك بظهري الذي أُسندُه إلى رسغه.
أشير الآن إلى الثامنة والنصف صباحًا.
***
أنهت لميس فطورَها. كانت قد نامت في منزل خالها غسّان كي يأخذَها معه إلى عمله في مقرّ الجريدة صباحًا. تحبّ لميس، ابنة السبعة عشر عامًا، عملَ خالها. تحبّ ذلك الكمَّ الكبيرَ من الكتب في مكتبة المجلّة. يعمل غسّان مديرَ تحريرٍ لمجلةٍ مقرُّها في بيروت. اليوم هو الثامن من تمّوز (يوليو) من العام 1972.
أشارت عقاربي حينها إلى التاسعة إلاّ ربعًا صباحًا.
قبّل غسّان آني، قبل أن يُغادر المنزل مع لميس. يحمل غسّان بيده اليمنى عددًا من الجرائد اللبنانية، وآخرَ عدد من مجلة الآداب. تحمل يدُه اليسرى سيجارةً تكاد لا تحترق. ترتدي لميس فستانًا طويلًا أبيضَ، يكسوه عددٌ من زهرات النرجس البرتقاليّة والصفراء والبيضاء. نحن الساعات، نحبّ فصلَ الصيف كثيرًا، إذ يصبح بإمكاننا مشاهدةُ الحياة بكلّ تفاصيلها، ومن دون أيّة عوائق. أمّا في الشتاء، مثلًا، فنختبئ من الأمطار، خصوصًا تحت القمصان والمعاطف الخشنة، فتنعدم الرؤية كلّيًّا.
يهبط غسّان درجاتِ السلّم مسرعًا. تلحق لميس به بصعوبة. يختبئ غسّان عند بلوغه آخرَ السلّم. ما إنْ تصل لميس الدرجَ الأخير حتّى يَظهر لها خالُها ويفزعَها.
ــــ اووووووووو، تصرخ لميس فزعًا، ليش يا خالو ... ارعبتني!
ــــ يا خالو، حكيتي مبارح إنك ما بتخافي صوت الرصاص، فكيف بتخافي صوتي؟ يضحك غسّان.
ــــ خالو، صوتك أقوى من الرصاص، صوتك مثل صوت القذائف.
ضحكتُ لتعليق لميس. غادرا بابَ العمارة. كانت سيّارة غسّان مركونةً أمام العمارة. فتح غسّان للميس الباب الأيمن وقال:
ــــ الملكة لميس تصعد الآن.
تقمّصت لميس دور الملكة في مشيتها وردّت بصوت حازم:
ــــ الملكة تقول للسائق إنها تحبّه كثيرًا.
بعد أن أغلق غسّان بابَ السيّارة، أشار بتحيّة عسكريّة كالجنديّ الذي يشير إلى قائده. أعطت لميس إشارةً بيدها اليمنى إلى غسّان. التفّ غسّان مسرعًا نحو باب السائق. فتحه وجلس. وضع المفتاحَ في المشغّل مُلتفتًا إلى لميس وقال: "مرحبًا بملكتي في مملكتها."
أدار المفتاح.
في جزءٍ من الثانية أو ربّما أقلّ، لا أدرك تحديدًا، أنا التي قضيتُ عمري أعدُّ الثواني وتفاصيلَها، وقع انفجارٌ هائل هزّ الشارعَ كلَّه، ووجدتُ نفسي فوق غصن شجرة تبعد عن السيّارة المشتعلة عشرةَ أمتار أو أكثر. لم أشعر في أوّل الأمر بأيّة آلام، إلّا أنّني بعد دقائق، وبعد أن استعدتُ وعيي، بدأتُ أحسّ بالكسور التي أصابت قزحيّتي البلوريّة التي تغطّي كامل جسدي. حاولتُ أن أقاوم الآلامَ الشديدة التي أحسّها، إلاّ أنّ عقاربي توقّفتْ، وعاودتُ فقدانَ وعيي بعد نصف ساعة من الانفجار.
***
بعد ساعات استعدتُ وعيي. وقبل أن ألفظَ أنفاسي الأخيرة، التقطتني يدٌ غريبة، ووضعتني مع أشلاء غسّان ولميس في كيسٍ بلاستيكيّ. توقّفتْ أعضائي عند التاسعة وخمس عشر دقيقةً. بعد أشهر، كنتُ قابعةً في مكانٍ ما في منزل الشهيد غسّان. كنتُ نصفَ حيّة نصفَ ميّتة. جاء إلى المنزل رجلٌ يدعى ناجي. طلب إلى آني أن تمنحَني إيّاه، لكونه صديقًا لغسّان. وافقتْ آني. حملني ناجي إلى ساعاتيٍّ، فأصلح كلَّ ما أصابني من كسور.
في البدء، أصبتُ بغثيان ودوارٍ شديديْن؛ فأنا لم أعتدْ حركةَ يد ناجي السريعة. كان غسّان قد عوّدني على حركات يده اليمنى البطيئة التي تَكتب بنسقٍ معتدل، في حين كانت يدُ ناجي لا تهدأ: ترسم خطًّا، ثمّ نقاطًا، ثمّ دائرةً، إلى أن يتشكّل الرسمُ كاملًا. قضيتُ الفترة الأولى على يد ناجي غيرَ مستقرّة، إذ كان ناجي يعدّلني كلّ فترة ويدقّق عقاربي. بعد مدّة اعتدتُ نسقَ الحياة الجديد، وشكرتُ ناجي الذي كان سببًا في عودتي إلى الحياة.
***
بعد أن دقّ قلبي أكثر من خمس مئة مليون دقّة، أيْ ما يقارب خمسَ عشرةَ سنةً، وتحديدًا في يوم 22 يوليو من العام 1987، أصابت رأسَ ناجي رصاصة.
من حسن حظّي أنّ عمليّة الاغتيال لم تكن بعبوة ناسفة. ومن سوء حظّي أنّني لم أجد مَن أطوِّق يدَه بعد ناجي العلي وبعد غسّان كنفاني.
تونس