أدركت كتائب القسام أن المعركة مع الاحتلال الإسرائيلي تحولت منذ حرب الفرقان من مواجهات محدودة بمكانها وزمانها وأسلحتها ووسائلها ومداها، لحرب مفتوحة لا ضابط لها ولا حد، استخدم الاحتلال فيها جميع الأسلحة بما فيها المحرم دوليا، وتستهدف الأمكنة مهما كانت خدماتية إنسانية.
فلا محرم عند الاحتلال الذي يصب نيرانه بكثافة دون ضابط على المدارس والمستشفيات والاسواق والتجمعات والابراج السكنية وما إلى ذلك فتمثل حرب الفرقان فاصلا زمنيا بين مرحلتين الأولى تعتمد على التوغلات المحدودة والقصف الضيق، والفترات الزمنية القصيرة، والمواجهات الفردية بالأسلحة الخفيفة، والقدرات شبه الارتجالية من المقاومة، أما بعد الفرقان فبدأ القسام يعد لمتطلبات الحرب المفتوحة، ذات المواجهة الواسعة والشاملة والممتدة، مما حدى بقيادته التركيز على مجموعة عناصر وتعزيزها كالتحكم والسيطرة فأسس لجهاز اتصالات خاص بعيدا عن أعين ومراقبة وتحكم العدو، مما يوفر وسيلة تواصل آمنة بين المستويات المختلفة للقسام، كما بنيت أنفاقا دفاعية لتمنع اختراق العدو ولتسهل الحركة والتنقل للمقاومين.
وتم إعداد دورات متقدمة تعتمد على المهارات القتالية واستخدام السلاح ومواجهة المخاطر، والالتزام بالخطة والقدرة على تحمل القتال في أوقات عصيبة وأماكن قاسية، كما أعدت خطة دفاعية تجعل غزة عصية على الكسر او الاجتياح، وقسمت الكتائب وفق تخصصات ممتدة يعرف كل مقاتل فيها دوره وثغره، فكان الدفاع الجوي والمدفعية والمشاة والنخبة والقناصة والهندسة والبحرية وما الى ذلك، مما حول القسام لجيش اقرب للجيوش النظامية الاحترافية القادرة على العمل بتكامل مدروس موجه مركز.
كانت جولة حجارة السجيل دليل واضح على تطور أداء كتائب القسام، وظهر جليا انتقالها نوعيا وكميا، واستطاعت سد الثغرات، وعالجت نقاط ضعف المقاومة فحيدت الطيران الإسرائيلي، وزاد لدى قيادتها التحكم والسيطرة، وظهرت استخباراتها تفوقا أمنيا نسبيا، حيث لم يظفر العدو بقيادات ميدانية مقارنة بالفرقان، كما ان صواريخها المصنعة استمرت في قصف التجمعات الصهيونية طيلة المعركة بنفس الرتم والكثافة.
ولم تفوت قيادة المقاومة فرصة الاستفادة من مرحلة السجيل، والتي اعتبرت نموذجا مصغرا قبل المواجهة المفتوحة، حيث تحفزت كتائب القسام واستطاعت تطوير منظومتها كما وعددا ونوعا، وأُدخل لترسانة القسام أسلحة جديدة كالأنفاق الهجومية ومضادات الطائرات، وطائرات الاستطلاع المصنعة على أيدي القساميين، بالإضافة للضفادع البشرية والقوات البحرية الهجومية، وكان لكل ذلك أثرا واضحا في سير المعركة. كما تميزت بطفرات في قطاعات أخرى أهما الأنفاق الدفاعية.
والمدقق الحصيف يدرك حجم التفوق الاستخباراتي للمقاومة ومدى تطوره وما أثره على الميدان في العصف المأكول، فلم يعد الجهد الاستخباراتي دفاعي فوجدناه يمد المقاتل القسامي ما يخدمه في ميدانه وعملياته، كما أبدعت كتائب القسام في ميدان الاعلام المركز والموجه في هذه المعركة وأجادت إدارة الحرب النفسية وطريقة توجيه الخطاب العسكري ومصداقيته، مما عظم من قدرته على التأثير.
وقت قصير ما بين حرب وحرب وفي كل حرب هناك رجال ينفقون أوقاتهم وعرقهم وجهدهم في بناء سلمة جديدة للصعود، وما شهدته معركة العصف المأكول من تطور نوعي وأداء ميداني عسكري متكامل يبشرنا أن القادم أعظم، وأن مسيرة التحرير بدأت تقترب من أهدافها، فقد جسرت كتائب القسام في سنوات قليلة فجوة هائلة بين قوة عسكرية متطورة جدا مدعومة تكنولوجيا وماليا من الولايات المتحدة، وبين مقاومة تعتمد على الله أولا وأخيرا وعلى قدراتها الذاتية رغم الحصار والتضيق والخذلان العربي.
اليوم هناك قوة فلسطينية متطورة وما شاهدناه في العصف المأكول يعتبر بدائيا لما عليه كتائب القسام في غزة، وفي الوقت ذاته تجنب الحرب والمواجهة أولوية إلا إن اضطرت لذلك، فالحصار والتضييق أسوأ من المواجهة العسكرية، والمماطلة في التفاهمات عنصر تفجير.