يعتبر "قطاع المحروقات" من أهم القطاعات الحساسة في الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ لأسباب تتعلق بمدى الاحتياج الكبير له، والصعوبات التي تقيّد استيراده، وتحديداً في قطاع غزة، الذي تعتبر جميع مصادر الطاقة فيه خارجية.
ولأجل ذلك، بادرت السلطة الفلسطينية في بداية تأسيسها عام 1994، إلى تأسيس "الهيئة العامة للبترول" هيئة عامة مستقلة، عُهدت إليها مهمة تنظيم قطاع المحروقات والإشراف عليه، وكانت تتبع مباشرة لمكتب رئيس السلطة، ولم تكن خاضعة لأجهزة الرقابة.
وبعد نحو ثلاث سنوات على تأسيس الهيئة ومباشرتها لعملها، بادر المجلس التشريعي بإقرار مشروع قانون الهيئة العامة للبترول بالقراءة الثانية في 25 نوفمبر 1997 وأحاله إلى رئيس السلطة في 7 ديسمبر من العام نفسه؛ للمصادقة عليه، إلا أن الرئيس رفض مشروع القانون في حينه.
وقد استمر هذا الوضع حتى تم ضم الهيئة لوزارة المالية في العام 2003، وبالتالي بدأت مرحلة جديدة أصبحت الهيئة بموجبها أحد الإدارات العامة في وزارة المالية.
اللجنة الاقتصادية بالتشريعي: طالما لا توجد مخالفات فلا توجد حالة تستدعي النظر
لكن مجلس الوزراء في رام الله لا يزال ينظر إلى الهيئة على أنها هيئة عامة، وذلك كما ورد في قراره الصادر في عام 2008 تحت عنوان "قرار مجلس الوزراء الفلسطيني في رام الله رقم (17) لعام 2008 بشأن تنظيم التراخيص الصادرة عن الهيئة العامة للبترول"، حيث جاء في المادة "1 التعاريف" لفظ الهيئة معرّفة بأنها "الهيئة العامة للبترول" وليس "الإدارة العامة للبترول"، رغم أنها من منظور مجلس الوزراء لم تعد هيئة عامة بعد ضمّها لوزارة المالية.
كما أن الحكومة في قطاع غزة سارت على النهج ذاته، عندما أصدر مجلس الوزراء قراراً بشأن "نظام منح تصاريح بالتعامل المباشر مع الهيئة العامة للبترول لشركات الوقود السائل ومحطات الغاز المسال"، حيث استخدم لفظ "الهيئة العامة للبترول" وليس "الإدارة العامة للبترول في جميع نصوص مواد النظام.
الأمر الأكثر أهمية هو أن الهيئة لا تزال تعمل دون قانون منذ 25 عاماً، ما قد يفتح الباب أمام غياب المساءلة والشفافية والنزاهة، وربّما وجود شبهات فساد، إذا ما علمنا أن إيرادات الخزينة العامة من ضريبة المحروقات عام 2018 بلغت 3 ملايين شيكل، فيما بلغت قيمة الاستهلاك السنوي من المحروقات حوالي مليار لتر!
تجاوزات وإهدار مال
تتعدد مهام الهيئة العامة للبترول بين تأمين احتياجات السوق المحلية من المشتقات النفطية، وتحديد أسعار الوقود شهرياً، ومراقبة جودتها، ومنح التراخيص اللازمة لإنشاء المحطات وتجديد التراخيص، مع عدم الإخلال بالشروط الخاصة بكل من الجهات ذات العلاقة في ترخيص الوكالات.
يبلغ عدد موظفي الهيئة حتى نهاية العام 2018، 199 موظفاً في مختلف التخصصات، موزعين على 12 محافظة فلسطينية، ويعمل في مكتب الهيئة بقطاع غزة 36 موظفاً.
يوثق تقرير أعده الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة- أمان، بعنوان "الهيئة العامة للبترول بين التقييم والتقويم"، أنه لم تكن جميع إيرادات الهيئة تورّد إلى الخزينة العامة منذ إنشائها وحتى منتصف العام 2003، وأنه نجم عن هذا التساهل من الجهات الرقابية المتعددة، إهدار كبير للمال العام، وتعدد حالات التجاوز على المال.
اللجنة القانونية بالتشريعي: لابد أن يحكم الهيئة قانون من أجل خدمات أفضل
ويشير التقرير الصادر في العام 2009، إلى أنه لم يتم تشكيل أي لجان تحقيق رسمية للتعرّف على مآل ومصير المال العام المهدر؛ بسبب الممارسات السابقة للهيئة، إلا بعد أن تم إلحاق الهيئة بوزارة المالية في إطار إصلاحات عام 2003 التي أدت إلى حصر الإيرادات والتحقيق مع رئيس الهيئة آنذاك "حربي صرصور" وعدد من العاملين فيها في قطاع غزة والضفة الغربية، وتمت إحالتهم إلى القضاء بسبب وجود حالات فساد كبيرة، تراوحت بين الجُنح والجريمة.
ومع حدوث الانقسام الفلسطيني في العام 2007، تأثرت الهيئة العامة للبترول كغيرها من المؤسسات الحكومية في قطاع غزة به، وأصبح للهيئة في قطاع غزة وضع مختلف عن الهيئة في رام الله؛ نتيجة لاعتماد قطاع غزة على المحروقات المصرية التي تضخ عبر الأنفاق بسبب الحصار؛ الأمر الذي أدى إلى استقلالية نسبية في عمل الهيئة في رام الله، وخلق إجراءات وسياسات إدارية وفنية ومالية وقانونية مغايرة في بعض الجوانب عن تلك المطبقة في رام الله.
ويفترض بحكم إلحاق الهيئة ضمن إدارات وزارة المالية أن تكون أنظمة الوزارة هي المرجعية القانونية والتنظيمية لإدارة شؤون الهيئة، لكن "معدّ التحقيق" لاحظ أن وزارة المالية في غزة لا تصنّف "الهيئة العامة للبترول" عبر موقعها الإلكتروني ضمن الإدارات العامة التابعة لها.
إضافة إلى أن الهيئة ليست ملحقة بمبنى وزارة المالية نفسها، إنما تتخذ من الطابق الرابع في سلطة الطاقة في غزة، مقرّاً لها.
وبشأن كل هذه التساؤلات، رفضت الهيئة العامة للبترول في قطاع غزة الإجابة عليها بعد مخاطبات ومراسلات عديدة أجراها "معدّ التحقيق" وانتظار لنحو شهر كامل، كما لم يتسن الحصول على إجابات حول ذلك من الهيئة في رام الله؛ الأمر الذي يحملنا على التفسير أن هناك أمراً مسكوتا عنه، يستدعي تفضيل الصمت على تقديم تبرير لكيفية عمل مؤسسة حكومية دون قانون.
رقابة غائبة
يختص المجلس التشريعي بممارسة دوره الرقابي على مؤسسات السلطة التنفيذية، ورغم أن الهيئة العامة للبترول واحدة من هذه المؤسسات، إلا أن دور التشريعي بشأنها ليس متقدّماً.
مارس التشريعي دوره الرقابي حتى أواخر العام 2005 بشأن إدارة قطاع المحروقات، من خلال إجراءات وتوصيات تتعلق أساساً بغياب المرجعية القانونية المنظّمة لعمل الهيئة، لكن الحال اختلف بعد هذا العام.
يكشف عاطف عدوان، رئيس اللجنة الاقتصادية في المجلس التشريعي لـ "معدّ التحقيق" أنه لا توجد محاولات جديدة لتشريع قانون للهيئة، "ولم يتم اقتراح مشروع قانون ولا تعديل على قانون موجود"، وفق قوله.
وحول رأي المجلس التشريعي في الشكل القانوني المناسب للهيئة بين اعتبارها هيئة مستقلة أم إدارة تابعة لوزارة المالية كما هي عليه الآن، يجيب عدوان: "لا توجد لدينا تجربة بحيث تكون قائمة ومستقلة بذاتها، معظم الفترة السابقة كانت تابعة للحكومة".
ويضيف: "أعتقد أن الحكومة يجب أن يكون لها دور كبير في عملية الإشراف وإدارة هذه الهيئة، لتقوم الحكومة برسم السياسات وتنفيذها".
ويبرر عدوان ذلك بأن الواقع الاقتصادي سيء جداً، "إضافة إلى أننا نتعرض لمؤامرة دائمة، وهناك استنزاف متعمّد للواقع النقدي في قطاع غزة (...) يمكن أن تكون هيئة مستقلة في غير ظروفنا الحالية".
ائتلاف أمان: الهيئة تفتقر لإجراءات خاصة تعزز النزاهة وتحصّن الموظفين ضد الفساد
وبسؤاله إن كانت اللجنة الاقتصادية تتلقى تقارير من الهيئة العامة للبترول أو مسودات لمعاملاتها واتفاقاتها، أجاب عدوان: "لا، لكن عندما نطلب هذه التقارير يتم تزويدنا بها"، مستدركاً: "ديوان الرقابة المالية والإدارية هو المفترض أن يقدّم لنا التقارير، ومهمته متابعة كل الجهات الحكومية وكل ما نكلّفه به. ، نحن قادرون على مطالبة الديوان بتقديم تقارير عن أي مؤسسة في البلد، وحتى المؤسسات الخاصة".
وبموجب نص المادة (31) من قانون ديوان الرقابة المالية والإدارية رقم 15 لسنة 2014، فإن الهيئة العامة للبترول تخضع لرقابة الديوان، بمعزل عن كونها هيئة مستقلة أم إدارة تابعة للمالية.
راسل "معدّ التحقيق" ديوان الرقابة ومديره الإداري للحصول على استفسارات حول الهيئة ووضعها القانوني، لكنه لم يتلق ردّاً، وفشلت كل محاولات التواصل.
فوضى
يوثق التقرير السنوي الحادي عشر لائتلاف أمان حول "واقع النزاهة ومكافحة الفساد في فلسطين خلال العام 2018"، أن الحكومة الفلسطينية لم تقم حتى نهاية العام 2018، بإقرار قانون للهيئة العامة للبترول، واستمرت في العمل دون تشكيل جسم تنظيمي ولا قانون ينظم هذا القطاع الخدماتي؛ الأمر الذي يفسر عدم توفر الإرادة الجدية لدى السلطة الفلسطينية من أجل تنظيم هذا القطاع، نظراً لوجود مستفيدين من هذه الحالة والتنافس بين أقطاب في السلطة الفلسطينية.
ينقل تقرير أمان أن معطيات لدى محكمة جرائم الفساد أظهرت تعرّض الهيئة في الضفة لحالات فساد عاملين من داخلها مع بعض مالكي المحطات، أسفرت عن هدر أموال طائلة من الأموال التي تشكل دخلاً مهما لخزينة الدولة العامة.
طرحنا السؤال على رئيس اللجنة الاقتصادية بالتشريعي، عدوان: "هل تقبلون استمرار الهيئة العامة للبترول دون قانون لأكثر من 25 عاماً؟"، فأجاب: "طالما لا توجد مخالفات معينة أو مخالفات لها علاقة بالقانون، فلا توجد حالة تستدعي النظر".
على النقيض من ذلك، يقول المستشار القانوني عبد الله أبو لولي، مدير اللجنة القانونية في المجلس التشريعي، إنه "لابد أن يكون هناك قانون يحكم الهيئة العامة للبترول من أجل أن تحقق خدمات أفضل".
يضيف أبو لولي لـ "معدّ التحقيق": "القانون يقر من أجل أن ينظم أعمال المؤسسة لتقديم خدماتها بشكل أمثل للمجتمع، وأن ينظّم العلاقة بين المؤسسة والجماهير المستفيدة من خدماتها".
ويرى أنه في حال غياب القانون أو النظام الذي يحكم مؤسسة ما، فلابد أن يتدخل مجلس الوزراء مباشرة ويضع الأنظمة واللوائح بشكل سريع، موضحاً: "نحن عندنا تشريعان فرعي وأصيل، الأول يصدر عن المجلس التشريعي من أنظمة وقوانين، والثاني يصدره مجلس الوزراء؛ من خلال الأنظمة واللوائح".
ويؤكد أن التشريع الفرعي ينبغي أن يكون منسجماً انسجاماً تاما مع القانون ذاته الذي أقره المجلس التشريعي، وألا يزيد عنه ولا يحدث أمرا جديدا، ولا ينقص أمراً نص عليه القانون الصادر عن التشريعي.
يوافقه الرأي، طارق الديراوي أستاذ القانون في جامعة الإسراء، الذي بدأ حديثه بالقول: "أينما دخلت السياسة، دخل الفساد"، في سياق تعليقه على عدم وجود قانون ينظم عمل الهيئة العامة للبترول.
ويقول لـ "معدّ التحقيق": "الانقسام السياسي انعكس سلباً على العمل القانوني، والأنظمة واللوائح الداخلية لا تغني عن وجود قانون ناظم يكون متوافقاً مع القانون الأساسي".
ويضيف: "الهيئة لا بد أن يحكمها قانون، ولا بد أن تكون هناك رقابة من المجلس التشريعي على عملها، وهنا أيضاً يأتي دور ديوان الرقابة المكمّل لهذه العملية".
وتابع الديراوي: "لا بد أن يضطلع التشريعي بدوره في كل ما يتعلق بالمعلومات الخاصة بالهيئة والوضع المالي لها، وإذا لاحظ وجود شبهة، فيمكن أن يكون هناك عملية استجواب".
وبسؤاله حول قيمة القانون في العمل الحكومي، أجاب الخبير القانوني: "القانون مهم في كل الحياة، وغيابه يعني الفوضى"، ويعرّف القانون بأنه قواعد عامة مجرّدة وملزمة، وأن من يخالفها يتعرض للإجراءات الجزائية.
حصانة ضد الفساد
وفي السياق، يعتبر أسامة سعد، مدير ديوان الفتوى والتشريع في قطاع غزة، عدم وجود قانون للهيئة العامة للبترول منذ 25 عاماً، قصوراً من الناحية التشريعية.
ويقول لـ "معدّ التحقيق": "الأصل أن يكون هناك قانون مُقرّ من المجلس التشريعي، خاصة أن ملف المحروقات مهم جداً وحساس للغاية".
ولا يعتبر سعد ديوان الفتوى والتشريع جهة اختصاص في ملف الهيئة العامة للبترول، ويضيف: "لسنا جهة تشريعية، ولا يحق لنا تصدير مشاريع قوانين وتقديمها للمجلس التشريعي، كون هذا الاختصاص محصورا فقط بالنواب ومجلس الوزراء".
ويشير إلى أن دور ديوان الفتوى ينحصر في إعداد القوانين من ناحية الصياغة، ثم نشرها بعد إقرارها من التشريعي، وإصدارها وفق الأصول.
ورغم ذلك، يوضح سعد أنه لم تكن هناك أي جهود لإقرار قانون أو تشريع خاص بموضوع الهيئة، "فالأصل أن يحال للديوان مشروع قانون لأجل دراسته وتقديم الرأي بالخصوص وصياغته، وهذا لم يحدث من قبل"، وفق تأكيده.
لكنه قال إنهم لم يتلقوا مخاطبات حتى من التشريعي أو ديوان الرقابة المالية والإدارية بالخصوص، مضيفاً: "حسب علمنا لم تعقد أي ورش عمل بخصوص الموضوع أو من أجل وضع مشروع قانون خاص به"!
ويؤكد رئيس ديوان الفتوى والتشريع أن الهيئة العامة للبترول لم يُعد لها إلا مشروع قانون واحد قُدّم من المجلس التشريعي وأقر بالقراءة الثانية في العام 1997، وأحيل إلى رئيس السلطة للمصادقة عليه، قبل رفضه.
وفي حديث مع "معدّ التحقيق"، يؤكد عزمي الشعيبي رئيس ائتلاف أمان على ما ورد في التقرير السنوي الأخير لعام 2018 بشأن هيئة البترول، فيما يتعلق بنتائج وآثار غياب قانون خاص بالهيئة ينظّم عملها في مختلف المحطات، وتحديداً افتقار الهيئة لإجراءات خاصة تعزز من النزاهة، وتحصّن الموظفين ضد الفساد.
ويشدد على أن المدخول الكبير (مليار دولار سنوياً) من الهيئة هو عملياً من مساهمات وأموال المواطنين الذين يشترون تلك السلعة بسعر السوق، يوجب على المواطن أن يرفع صوته لتنظيم الملف والمساءلة على طريقة إدارته.