الرسالة نت - فادي الحسني
من غير المعتاد أن تعمل امرأة خمسينية من قطاع غزة المعروف بعاداته وتقاليده المحافظة، كسائقة أجرة، لولا أن الظروف المادية الصعبة أجبرتها على امتهان هذه المهنة مذ كانت في الثلاثين من عمرها.
ولا تجد أم فادي السنوار حرجاً في قيادة تكسي الأجرة وتحميل الركاب سواء كانوا إناثا أم ذكور، وذلك مبني على قاعدة "العمل ليس عيبا"، غير أن بعض التلميحات "غير اللائقة" "تثير أحيانا غضبها.
والسائقة ذات البشرة القمحية، تعيل أسرة مكونة من سبعة أفراد، وزوجها مقعد منذ عدة أعوام، لذلك ترى أن "العمل كسائقة أجرة أفضل بكثير من طرق الأبواب ومد اليد طلبا للمساعدة".
وتبدو الخمسينية صلبة في الحديث عن ماضيها المؤلم، وتقول بعينين شاخصتين :"تزوجت في العشرين من عمري، وبدأت مشقتي منذ عملت سائقة لسيارة نقل الموتى قبل عشرين عاماً لمدة عام، ثم انتقلت للعمل كسائقة لسيارة معاقين، لكني توقفت بعد خمسة أشهر نظراً لإصابتي بوعكة صحية شديدة أردتني حبيسة الدار لفترة طويلة".
وعانت أم فادي التي لم تكمل تعليمها الابتدائي، شظف العيش، حيث لم تجد معيلاً لأبنائها الخمسة، وقالت وهي تبتلع ريقها :"كنا نعتاش على الصدقات التي يقدمها فاعلو الخير"، مشيرة إلى أنه توفرت لها فرصة عمل، كمدربة سياقة، لكن صغر أطفالها في حينه لم يمكنها اغتنام هذه الفرصة.
تضع السائقة الخمسينية يدها التي خط عليها الزمان الأسى، على خدها، وتقول بصوت خافت :"عملت في مصنع للخياطة وكذلك في كوي الملابس..عملت آذنة في مدرسة لعام كامل، كما عملت في تنظيف البيوت..كان الناس يأكلون وعزة نفسي تمنعني عن مشاركتهم الغذاء رغم شعوري بالجوع..عانيت كثيرا".
تصمت برهة وتشير إلى أنها تأمل في تزويج أبنها البكر في الثامنة والعشرين من عمره، الذي يعمل هو الآخر كسائق أجرة، وقالت :"أبنائي الاثنين لم يتمكنا من إكمال دراستهما الجامعية بعد أن نجحا في الثانوية العامة..أما أبنتي فتكفل شخص بالأنفاق على دراستها الجامعية".
وتلفت سائقة الأجرة الأولى بغزة، إلى أنها كانت تكسو أبنائها بملابس بالية التي كان يمنحها إياها الناس، "لذا كانوا دوما يشعرون بالنقص"، مبينة أنها تحاول قدر المستطاع توفير احتياجاتهم.
تصدر أم فادي تنهيدة عميقة وتقول:" عشنا حياة صعبة للغاية..لك أن تتخيل أن يكون الأب مريضا وغير قادر على إعالة الأسرة، وأن يطلب منك إطعام خمسة أبناء والقيام على رعايتهم وتحمل مسؤولياتهم"، موضحة أنها كانت تحظى دوماً بنظرات الاحترام والتقدير من قبل أبنائها.
واعتبرت أنه من العيب مد يد الأيدي للناس طلبا للعون والمساعدة، فيما أنه من الفخر العمل والكفاح من أجل توفير لقمة العيش.
ويبدو أن قسوة الأيام لم تدع لأم فادي أية دمعات لتذرفها على الماضي، حيث تقول:"كنت أعمل والدموع تتقاطر على خدي، لكنني بحمد الله تمكنت من تحمل المسؤولية، واستطعت أن أربي أبنائي حتى أصبحوا شبابا".
وعن المضايقات التي واجهتها كسائقة، لفتت إلى أن بعض السائقين كانوا يثيرون غضبها بتلميحاتهم ونظرات الحط من القيمة، وقول بعضهم "إننا لن نرزق طالما تعمل امرأة كسائقة أجرة".وتجدر الإشارة إلى أن أم فادي هي المرأة الأولى في قطاع غزة التي تعمل كسائقة أجرة، رغم أن المرأة الفلسطينية التحقت بقيادة السيارات الخصوصية كمتدربة ومدربة في الوقت ذاته.
وسبق وأن حظيت مبادرة محلية لتشغيل سيارات "تاكسي" تقودها نساء وخاصة بالنساء، في الخليل جنوب الضفة الغربية، بإعجاب الكثير، لكن مثل هذه المبادرات لم تطرح في قطاع غزة.
واعتبرت أم فادي أن عمل المرأة ليس عيباً، مشيرة إلى أنها لن تتحرج من إصلاح السيارة إذا ما أصيبت بأعطال على الطرقات.وقالت: "عندما تتوقف السيارة فجأة على الطريق أقوم بإصلاحها، وأحيانا تبديل الإطارات إن استوجب الأمر"، لافتة إلى أن بعض السائقين يقومون في بعض الأحيان بمساعدتها.
أما عن الطرائف التي مرت بها خلال عملها، قالت :"عندما كنت أمر من أمام شرطي المرور مسرعة أثناء عملي على سيارة نقل الموتى، كان يطالبني بتخفيف السرعة، لكني كنت أرد: أخشى أن يستفيق الميت".
وبمجرد أن يدق زبون ما؛ جرس الهاتف الخاص بأم فادي، طالبا نقله إلى أي مكان من قطاع غزة، تهم إلى تشغيل محرك سيارتها الخضراء، من طراز "مرسيدس" موديل الثمانينات، لتلبية طلبه.
تجلس السائقة خلف المقود.. تعمل على تعديل المرآة المعلقة في سقف السيارة، وتتأكد من خلو الطريق عبر النظر يمينا ويسارا إلى مرآتين معلقتين على جانبي السيارة، ثم تعمل المحرك، وتطلق صوت "الزامور" إيذاناً بالانطلاق بحثا عن الرزق.
وتظل حكاية الخمسينية أم فادي، هي واحدة من بين مئات الحكايا الفلسطينية التي تتوج المرأة بطلتها..ومن الصيادة الأولى، إلى السائقة الأولى، تبقى غزة حبلى بنماذج التحدي.