توفيت، ظهر الإثنين، الحاجة والأسيرة المحررة فاطمة عمر الحلبي، بعد صراع طويل مع المرض.
والحاجة الحلبي، هي أم لأسير وزوجة أسير وابنة اسير، وقضت ثمانية أعوام في سجون الاحتلال قبل ابعدها للخارج، وهي زوجة الشهيد القائد زياد الحسيني قائد قوات التحرير الشعبية.
وكانت "الرسالة " قد أجرت حوارا مطولا مع الحاجة الحلبي، تروي خلال فصولا عن حياتها ومسيرتها النضالية والكفاحية.
الجزء الأول
بدت عليها علاماتُ التعبِ الذي أخذ جزءًا من صحتها، وما يزيد عن شهرٍ في انتظارها حتى تتعافى ونجري حوارًا معها؛ يخلّد قصتها التي وصفها أحد المفكرين أنّها "كنزُ الزمان"، كما أخبرها أحد ضباطِ الاحتلال "الإسرائليي" أثناء التحقيق معها "لو وجدت (4 نساء) في المخابرات الإسرائيلية مثل فاطمة الحلبي لن ننهزم قط".
زارت "الرسالة"؛ الحلبي (70 عامًا) في مكتبها الذي تزيّن بصور كفاحها المسلّح، التي يكسوها "أبيض وأسود"، ورُغم قدم سنّها الذي يعود لعهد "النكبة"، إلّا أنّ لسانها لا ينطق إلا الفصحى التي أظهرت مدى عمقها، تقول بلسانٍ عربي سليم: "حياتي قضيتها لخدمة الحق، ولو عاد الزمان بي للوراء، سأعيد تفاصيلها على أكمل وجه، وأتمنى من الله أن يتحوّل كل غرام في جسدي إلى قنبلة تتفجّر في الاحتلال وأعوانه".
تعود فاطمة بذاكرتها إلى بداية النكبة، وقت أن كانت في أحضان أمّها "وطنية"، تناغي باسم فلسطين، وترضع حبّها، وإن سألوها عن أبيها، تبتسم وتصفق ببراءة مجيبة: إنّه "عُمر الحلبي".
تنظر إلى صورته التي زيّنتها في "برواز" أمام عينيها، وتستحضر طفولتها برفقته، تقول فاطمة: "طفولتي كانت غريبة جدًا، أذكر جيدًا مشهد حضور أحد العملاء إلى منزلنا برفقة جنود الاحتلال، ومطالبتهم والدي بالاعتراف على السلاح وأماكنه، لكنّه رفض".
صرخته في أذني
كان المشهد قاسيًا، وما زالت صرخة والدها "عُمر" تدوّي في أذنها بعد توجيه ضابط "إسرائيلي" سؤاله لأمها عن مكامن السلاح، فنادى عليها رب الأسرة "اصمتي يا وطنية"، وكان لندائه ثمن، بتوجيه أحد الجنود بندقيته اتجاه بطن الأم التي كانت حاملا في شهرها التاسع، وصرخة أرعبت من في المكان أطلقها "عمر"، أوقفت عملية القتل، فاقتادوه إلى جهةٍ غير معلومة.
"قضى وقتًا في سجنه، وجوّعوا كلابهم ثم أطلقوها عليه"، تتحدث فاطمة عن والدها، وتصف بشاعة منظر جسده الذي أمسى متآكلًا، وتناثر جلده في ثيابه بفعل التعذيب.
وفي أحد الصباحات، استيقظت فاطمة على خبر "سيتم إعدام عُمر الحلبي في الميدان الساعة العاشرة صباحًا"، فهرع الجميع إلى المكان، وبقيت -وعمرها حينئذ سبع سنوات- على باب منزلها، ولم يُدخلها أحد جيران حيّها إلى بيته خوفًا من المساءلة الإسرائيلية، "لأنّ هذه العائلة بسبب نضالها لا يترك اليهود المكان، ودائمًا يفرضون الطوق عليه، فلا يهنأ سكانه بالحياة".
انتظرت العائلة خبرًا بشأن "عُمر"، لكنّ البوليس الدولي أخبرهم أنّه ما زال على قيد الحياة، وجاءهم أحد "الأصدقاء" ليطلب مالًا ليشتري الملابس لوالدهم في المعتقل، وتبين لهم لاحقًا أنّه كان يسرقهم دونما يوصل شيئا داخل السجن.
غيّرت فاطمة من جلستها، وحدقت في الصور التي رصّتها على جدران مكتبها، ثم أخذت تنهيدة وألحقتها بجملة: "أخذني الإسرائيليون وعائلتي وقت أن كان عمري سبع سنوات إلى مستشفى المعمداني شرق غزة، ووجدت أبي الذي صعُب التعرف عليه من شدة التعذيب الذي لحق به".
استمر علاج "عُمر"، حتى تعافى من إصاباته، وبقيت أنياب "كلاب الاحتلال" ترسم علاماتٍ على جسده، وسارت الأيام وكبرت "فاطمة"، حتى أضحى عمرها (19عامًا)، وتذكر حديثها مع والدها في إحدى البيارات.
"أنت نشيطة والجماعة طلبوا أن تكوني في التنظيم"، يبدأ مع ابنته الحديث، ترد عليه فاطمة: "وما هي مهامي تحديدًا؟"، يخبرها مربتًا على كتفها: "ستعلمين ذلك من قائد التنظيم -أبو علي-".
كان الاسم الحركي لقائد التنظيم "أبو علي"، لكنّ حقيقته غير ذلك، فاسمه "زياد الحسيني". وبعد اللقاء الذي جمعها معه، وكّلت إليها مهمّة "نقل السلاح من مكان لآخر، ومرسال في توصيل المعلومات لمجموعة المسلحين الفلسطينيين".
تطوّر العمل
تطوّرت مهمة فاطمة، وطلب "الحسيني" لقاءها، فحضرت إلى مكانٍ مليء برجالٍ مدججين بالسلاح، ثم أوكل إليها أمر "الارتباط المباشر مع قيادة قوت التحرير الفلسطيني".
تقول فاطمة: "كلّفوني أن أكون حلقة وصل بين المناطق، وجميع المعلومات تصبّ عندي، ثم أنقلها للقيادة.. تطور بي الأمر حتى أصبحت أمور المال والسلاح تمر من خلالي".
ما زالت كلمة الحسيني التي قالها لـ"عُمر" عالقة في ذهن فاطمة، تُحدثنا بها: "أخبر والدي أنّه لا يؤمّن لأحدٍ في التنظيم سواي، لأنّي ألتزم السرية، وأشارك في جميع العمليات الفدائية التي كان ينفذها عناصر من قوت التحرير".
علاقة المقاومة جمعت بين "فاطمة" وزياد الحسيني، حتّى أطلق الأخير عليها لقب "زنبرك القوات"، ثم تقدّم لخطبتها من والدها لتكون زوجة له، وتمّ الأمر بالقبول.
وكأنّ خطبتها تمّت للـتو، فقد عاد بها الزمن خمسين عامًا للوراء.. تبسّمت خجلًا ثم تابعت حديثها: "كان سبب خطبتي حتى أمارس عملي باندفاعية، وأبقى إلى جانب الحسيني في جميع أعماله، وأكون يده اليمنى في القرار والتنظيم".
كلماتُ غزلٍ أطلقتها لخطيبها بقولها: "كيف أرفض من باع روحه، والتحف التراب، وأكل أوراق الشجر لأشهرٍ وهو يدافع احتلالا جاثما على صدورنا في فلسطين".
في كنف "البارود، وتصنيع بطاريات الانفجار، والتدريب على السلاح، وصناعة ساعات الصاعق قضى العروسان أيامهما، وفي هذا الأمر تقول فاطمة: "أصبحت أتقن جميع الأعمال العسكرية.. ولو جئتني الآن بأي متفجّر أفككه لك، أو أصنع لك مثله".
زواج الحسيني
لم يعلم أحد بزواج "فاطمة والحسيني"، وجميع المحيطين يحسبونهم أشقّاء، ويخشون من تطوّر قدرات العروس، لا سيما أنّها أصبحت عسكرية تنافس الرجال في خبرتها، وتشرف على العمليات العسكرية التي ينفذها الشبان ضد الاحتلال، وصاحبة البصمة في "تكتيكات الهجوم".
اجتماع نظّمه الحسيني في أحد مراكز التدريب، وأخذ عهدًا من جميع العناصر والقيادة "ألا يعترف أحدٌ على الحلبي أنّها في القيادة، ومن يعترف يتعرض للعقاب الشديد".
لم يرق نشاط الحسيني العسكري لكثيرٍ من العاملين على الساحة الفلسطينية، فنظّموا أمرًا بينهم للتخلص منه في أقرب فرصة.
تقول: "كانت في مرحلتنا حركة الاخوان المسلمين ويحاربهم الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وكنا نحن نتبع لجيش التحرير الفلسطيني التابع لأحمد الشقيري، وعلى الساحة أيضًا الجبهة الشعبية الماركسية"، وتتابع والمرار يكسو تقاسيم وجهها، "عقدوا مؤامرة لقتلنا والتخلص منا، واحلال حركة فتح مكاننا لتمثل منظمة التحرير الفلسطينية في فلسطين".
أعطيت التعليمات "بقتل من استطاعوا إعدامه في غزة، وابعاد الآخرين إلى بيروت، وإحلال فتح مكانهم". وفق الحلبي.
أخيرًا، أحيكت مؤامرة الاغتيال بدقّة متناهية، ثم استدرجوا الحسيني إلى بيت أحد الشخصيات الفلسطينية وسط غزة، وجرت تصفيته في (21/10/1971)، وسعى في وقتها كثيرٌ ممن سوّلت لهم أنفسهم للتخلّص من الحلبي، وتصفية التنظيم بشكلٍ نهائي.
أخرجت حروفها قائلة: "آآآه يا إمّي.. قبل أيام كانت ذكرى استشهاده، يوم ثقيل وصعب جدًا علي، لا سيّما أنّ أحد القاتلين ما زال على قيد الحياة حتى اللحظة".
تنظيم "قوات التحرير الفلسطيني" كان قائمًا على رأس هرمي، يقوده شخص واحد فقط، وبعد اغتياله أضحى التنظيم في مرحلة "الضعف"، وكوْن "الحلبي" حاضنة الأسرار في مملكة "الحسيني"، سعت إلى لملمة القوات من جديد، وتولّت القيادة، وحصلت على "الختم" الذي بمقتضاه يتم التعامل مع جميع الأمور الرسمية.
"من هنا بدأت الملاحقة الفعلية من الاحتلال وبعض الخونة"، تقول الحلبي، وتستحضر مشهدًا وقت أن كانت تختبئ في منزل أحد أفراد التنظيم، تتابع: "حضر أحد العملاء إلى البيت، وطلب من صاحبه أن يدلّه على مكان وجودي، واسمي الحقيقي، لكنّ الأخير رفض، وأخبره أنّه لا يعرفني قطعيًا".
وفي اليوم التالي، وصلها خبر اعتقال الاحتلال لوالدها وجميع أفراد أسرتها؛ فسعت إلى تعقّب أخبارهم، والتعرف على مكان تواجدهم، وتنفيذ عمليةٍ تخلصهم من فكِ (إسرائيل).
لحظة الاعتقال
في يدها السلاح، وأمامها طريقٌ وعر، ملآى بالعيون التي تترصدها، وبعض عثرات الطريق، "لكني قطعت مسافة ليست بسيطة للوصول إلى بيت أهلي، وقبل دخولي المكان راقبته فترة من الزمن، وظهر عليه أنّه مهجور". تقول الحلبي.
وتشير إلى أنّها سعت إلى معرفة من في البيت، فألقت بحجرٍ صغيرٍ على شبّاكه لتنظر إليها شقيقتها التي اتفقت معها على هذه الإشارة، لكنّ جنود الاحتلال نصبوا لها كمينًا على بعد كيلو متر، وعشرات الآليات العسكرية والجنود حاصروها وبدأوا بالنداء عليها أن تسلّم نفسها.
تساءلت مع نفسها "كيف يمكنني التخلّص منهم"، لكنّها قررت في نهاية المطاف أن تضع سلاحها من يدها في مخبئ بجوارها، و "كأنّها لا علاقة لها بأي حادث".
مكبرات الصوت تخرج من جيبات الاحتلال "سلّمي نفسك.. المكان محاصر"، فاستهترت بنداءاتهم ثم سألتهم ساخرة، "ما القصة، لماذا كل هذه الضوضاء؟"، ولم يكن منهم إلّا أن "وضعوا الكلبشات في يدي، وحملوني ووضعوني في الجيب العسكري". تقول الحلبي.
لحظة اعتقال الحلبي كانت بمثابة نصرٍ لجيش الاحتلال "الإسرائيلي" الذي لم يتمالك نفسه، وأعلن عبر إذاعته أنّه جرت عملية الاعتقال بنجاح.
وصلت إلى إحدى الزنازين، وكان الاحتلال يهدف إلى ادخالها من أمام زنزانة والدها، تقول: "وجدته مشبوحًا كما ولدته أمّه، والدم ينساب من جسده، وأربعةٌ من الجنود يضربونه، وآخرون ينتظرون ليحلوا مكانهم".
أمسك جندي برأس "عُمر الحلبي" وهو مشبوح، ثم صرخ في وجهه باللغة "العربية المكسرة": "شوف مين مسكنا وجبنا".
صرخ "عُمر" على ابنته فاطمة بعالي صوته وهو يضرب بيده التي كبّلها الاحتلال بالجنازير؛ على ظهره ويقول: "يابا.. أنت من صلبي، أنت ابنة الحلبي، ايّاك وأن تعترفي على أحد، إن لم تستطيعي.. وعذبوكِ فاقتلي نفسك قبل أن تعترفي".
كانت لكمات جنود الاحتلال قويّة إلى الحد الذي ذهب صوت "عُمر" به، وبقيت كلماته في ذهن "فاطمة" تتردد حتى اللحظة.
إلى هنا ينتهي الجزء الأوّل من حكاية "فاطمة" قائدة قوات التحرير الفلسطينية، وندعوكم لمتابعة الجزء الثاني الذي نستعرض فيه أساليب التحقيق معها، وفترة السجن الأولى والثانية، وابعادها إلى أكثر من دولة عربية، واتصال رئيس العراق الراحل صدام حسين بها، وطلبه منها "العراق يرحّب بكِ.. فإن جئتِ إليه فرشنا لكِ الأرض وردًا وياسمينًا".
(الجزء الثاني)
كأنّ مغناطيسًا يجذبنا لحكاية الحاجة فاطمة الحلبي، فالشوق لسماع تفاصيل قصتها شدّنا ثانية إلى مكتبها الذي تحتضن جدرانه حكاياتِ وجعٍ أبطالها "والدها وزوجها وآخرين".
حطّت رحالنا في الحلقة الماضية مع "فاطمة" بعدما أخبرتنا عن حياة والدها الذي لقي صنوف العذاب من الاحتلال "الإسرائيلي"، وزواجها من زياد الحسيني وطريقة إعدامه في بيت أحد الشخصيات الفلسطينية بغزة، وصولًا إلى كمين اعتقالها.
وصلت "فاطمة" إلى إحدى الزنازين ويداها مكبلتان بالسلاسل الحديدية، وشاهدت والدها أمام ناظريها "مشبوحًا" كما ولدته أمّه، والدم ينساب من جسده.
أجلسها المحققون في زنزانة زجاجية وصوّروها كـ"مُتّهمة"، ونقلوها إلى أخرى لا تتسع إلّا للجلوس مقرفصًا، ثم تركوها أيامًا تعاني ويلات المعتقل.
"تركوني في الزنزانة لأيّام، فنسجت قصّة وهمية وحفظتها عن ظهر قلب"، تقول فاطمة، وتشير إلى أنّها تأكدت من خلوّ أسماء أي عنصر من تنظيم قوات التحرير الشعبية ضمن ما أحاكته في خيالها.
أنا وليس عائلتي
أحضرها رجلُ السجن إلى قاعة المحكمة، وطلب منها أن تعترف على "جرائمها"، لكنّها رفضت، قائلة: "لن أتحدث ببنت شفة وأبي لا يزال في سجونكم.. أنا المطلوبة فاتركوا عائلتي دون أذيتها".
خضع الاحتلال لكلام "فاطمة"، وأخرج والدها من زنازينه، والتفّ الجنود من حولها، وأخرجوها إلى كرسيٍ خشبي في غرفة ملآى بمكبّرات الصوت، ثم قيّدوا يديها وقدميها بالسلاسل، طالبين منها الاعتراف.
"أحضروا لي ورقًا وقلم، وقالوا لي أكتبي كل ما لديك"، تقول فاطمة، وتفصل بين حديثها بابتسامة هادئة، وتتابع: "سردت التفاصيل التي نسجتها من واقع الخيال، وسلمتهم الورقة".
قرأ المحقق الكلام الذي كتبته فاطمة، ثم صرخ في وجهها: "ما هذا الهراء.. كل ما كتبته كذب أخبرينا بالحقيقة..". قاطعته بحديثها "هذا ما عندي، إن شئتم صدقوني أو أنتم أحرار".
دارى بوجهه اتجاه مخرج الغرفة، وأخذ يشتم بأقبح العبارات، ثم خرج وطرق الباب بقوّة، ومع خروجه بدأ يتسلل صوت الرنين من السماعات، ويعلو تدريجيًا، "حتى شعرت أنّ رأسي سيتفجر من شدّته، وكنت أصرخ كي يطفئوه"، تقول فاطمة.
أطفأوا السماعات ودخل المحقق إليها من جديد؛ متبسمًا معتقدا أنّه في طريقه للنصر، ثم طلب منها إخباره بالحقيقة، وكان جوابها: "لو لم تصدقني فاطلب من الأسماء التي كتبتها في الورقة بالحضور لمواجهتي..".
كانت حلقات التعذيب تستمر تباعًا دون توقف، وما يواسي "فاطمة" ويهدئ من روعها، صوت والدها الذي بقي عالقًا في أذنيها: "إيّاك وأن تعترفي على أحد، إن لم تستطيعِ.. وعذبوكِ فاقتلي نفسك قبل أن تعترفي".
تعذيب وانتقام
شعر الاحتلال أنّه أمام قوّة حقيقية متجمعة في جسد أنثى تُسمّى "فاطمة"، وفي إحدى حلقات التعذيب، دخل الضابط "الإسرائيلي" –أبو سامي- إلى الغرفة المخصصة للتحقيق -في أجواء الشتاء القارس- وبيده سلسلة من حديد، ودونما همسٍ جمّع قوّته وطرق الحديد على رأسها، صارخًا بالشتائم عليها لأنّها "قهرت كبدهم، ومرّغت كبريائهم، وأذلت أنوفهم".
سال الدم من رأس "فاطمة"، وفقدت الوعي، لكنّهم أحضروا دلوًا من الماء البارد وسكبوه عليها، وأعادوا الكرة مراتٍ عدة؛ حتى استفاقت، فتركوها بكلمات تهديدٍ "أن القادم أصعب ".
"خططت لحفر نفقٍ في السجن وفي منتصف الطريق كشف أمرنا"
تقول فاطمة: "بعد أيّام وصلتني رسالة مكتوبة بخط اليد من عناصر في قوات التحرير، وموضوعة داخل حبّة بطاطا مسلوقة؛ أخبرتني تلك الرسالة أنهم انتقموا لي واغتالوا أبو سامي وأمريكي كان برفقته بالقنابل".
تتحدث فاطمة أن "صفقة جرت مع الاحتلال من شخصيات فلسطينية (عملاء ومربوطين مع إسرائيل) يتمّ بموجبها إخراجنا من السجون واستحواذ حركة فتح علينا للانضمام إليهم"، وتشير إلى أنّها تنسّمت رياح الحرية بعد أن لاقت صنوف العذاب في مراكز التحقيق لمدة (7 شهور) في "السرايا" بمدينة غزة.
تتساءل الحلبي: "منذ متى ينظم الاحتلال حفل تكريم واعتذار لنا بعد إطلاق سراحنا، ويخرج معتقلًا متهم بقتل عشرات الجنود من قواته، هل هذا معقول دون أن يكون لقيادات فلسطينية يد في ذلك؟".
حضرت قيادات من حركة فتح، وطلبت من "فاطمة"، ضمّها إلى الحركة، وتوضح أنّها رفضت المقترح، وعادت أدراجها إلى بيتها؛ الذي حاصره الاحتلال طيلة فترة اعتقالها.
باشرت "فاطمة" بلملمة أوراق التنظيم؛ في محاولة لإحيائه من جديد، لكنّ تهديدًا وصلها على شاكلة رسالة من كبار الشخصيات الفلسطينية في ذلك الوقت، تركها مع والدها وفي فحواها: "لا نريد ابنتك في فلسطين وإلا ستلاقي مصير زوجها زياد الحسيني".
وتضيف:" "بعد أن خرجت من السجن جاءني اثنين من المسؤولين، وصلوا لوالدي وهددوه إن بقيت سألقى مصير الحسيني.. قدموا إغراءات لي أنّني إن أبعدت للخارج سيتوفر لي شيكًا من المال مفتوح، وبيت، وممتلكات.. لكنني رفضت".
محاولة اسقاط
وبعد أيّام وصل "فاطمة" استجواب من الحاكم العسكري "الإسرائيلي" لمقابلته في مقرهم بغزة، تقول: "استمرت المقابلة لـ4 ساعات ونصف، عرض علي خلالها أن أكون عملية لحسابه".
كانت لهجة الحاكم العسكري مغرضة، تلتقط نقاط الضعف في "فاطمة"، في محاولة للدخول لها من خلالها، تضيف: "أخبرني أن أعدائي كثر، ولا يقتصرون على الإسرائيليين.. وأعطاني رقم خاص به لأتصل عليه إن رغبت في الأمر".
أخذت "فاطمة" الورقة، ومزّقتها أمام عين الحاكم، وقالت: "أتمنّى من ربي أن يعطيني القوة لأقطّعك إربًا كما الورقة".
استشاط الحاكم غضبًا، ثم قال لها: "أعدك يا ابنة الحلبي لن تطيل حريتك خارج السجون، لأنّك كسوسة الخشب؛ تنخرين في الدولة الإسرائيلية حتى تدمرينها".
تركت "فاطمة" الحاكم، وذهبت إلى مجموعتها التي كوّنتها من جديد تحت اسم "قوات التحرير الشعبية"، وباشرت بالتخطيط وقيادة القوات.
"نفذنا عمليات موجعة للاحتلال، وقتلنا ما استطعنا منهم"، تقول فاطمة، عدلت جلستها لتريح جسدها بعد ساعات –فترة لقاء الرسالة-، وتتابع: "قررت أن أعقد صفقة سلاح من تل أبيب عن طريق اسرائيلي درزي، وفعلت ذلك لـ(6 مرات متتالية).
كانت "فاطمة" دائمًا تتخفّى بملابسها، وتداري بعباءتها أيّ أمرٍ من شأنه كشفها، ومن تتعامل معهم يعتقدون أنّها رجلًا، وفي إحدى صفقات السلاح؛ تعرّضت للخيانة من أحد عناصر التنظيم، وفوجئت بمحاصرة قوات الاحتلال للمكان.
تتابع حديثها "حاصروا المكان، ولم أكن اتعامل باسمي الحقيقي، لكنّ الضابط الذي أخبرني أنني لن أمكث كثيرًا خارج السجن هو ذاته من كان يقود القوة إلى المكان المتواجدة به".
أعلنوا مرة جديدة في إذاعاتهم أنّهم "ألقوا القبض على فاطمة الحلبي"، وفور وصولها إلى مركز التحقيق، بدأوا بتعذيبها، "سكبوا المياه الباردة على جسدها، وأشعلوا أربع مراوحٍ في جميع الاتجاهات؛ الأمر الذي أدى إلى تلف كليتها".
تكزّ على أسنانها، وتضغط بيديها على الكرسي الذي تجلس عليه، وتستحضر مشاهد التعذيب الذي تعرضت له، تقول: "تعرضت للشبح، ومزّقوا شعري بأيديهم..، وحرقوا قدماي، وصوت الزنين في الغرفة لم يتوقف، وجوّعوني لأيّام، وشغّلوا الكهرباء على جسدي، واستخدموا ما لا يخطر ببال أحد من صنوف التعذيب للانتقام".
"ضابط المخابرات قال لي: لو وجدنا (4 نساء) في جهازنا مثلك لن ننهزم قط"
انتهى المطاف بضباط الاحتلال بعد استخدام جميع الوسائل لنزع اعتراف من "فاطمة"، بإجابتها أنّها "لا علاقة لها بأي تنظيم، أو أي عملية فدائية".
سنهدّ قواكِ
وبعدما شعر الاحتلال أنّه "لن يأخذ منها حقًا ولا باطل"، حكم عليها بالسجن لـ(14 عام تنفيذي، و20 عام تنفيذ مع الإبعاد) بتهمة "إنشاء تنظيم عسكري معادي لدولة إسرائيل".
تولّى رئاسة التحقيق مع "فاطمة" ضابط يسمّى "أبو سيف"، وأخبرها في إحدى الجلسات، "لا تحلمي أن نعيدك لغزة ما دامت إسرائيل في الوجود.. سنعذّبك حتى نهدّ قواكِ، ثم نبعدك إلى دولة صديقة لنا".
وأثناء انتهاء التحقيق مع "فاطمة"، وعشية نقلها إلى "سجن الرملة"؛ جاءها المحقق "أبو سيف" في زيارة خاصة من "تل أبيب"، وفور رؤيته لها، قلع طاقيته عن رأسه وانحنى ثلاث مراتٍ لها، وقال لها: "لو وجدت (4 نساء) في المخابرات الإسرائيلية مثل فاطمة الحلبي لن ننهزم قط"، وتابع حديثه لها: "الآن علمت لماذا اختارك زياد الحسيني زوجة له".
"عقدت 6 صفقات سلاح مع ضباط من (تل أبيب)"
انتهت زيارة "أبو سيف"، وفي الصباح توجّهت "فاطمة" إلى سجن الرملة، غرفة (48)، وكانت تعليمات الضباط على جميع من في القسم، مجموعة محاذير أبرزها: "محاولة اشغالها بالتعارك معها، وعدم دخولها المطبخ خشية من عمليات طعن، وحكموا عليها بالأشغال الشاقة في تكسير الصخر بأحد الحقول".
التخطيط للهروب
كانت "فاطمة" تفتتح نهارها داخل المعتقل في تكسير الصخر بالحقل، وتنهيه داخل غرفة السجن في محاولة لتجنيد إحدى السجّانات، وبعد جهدٍ طويل، نجحت في ذلك، واستطاعت من خلالها الوصول إلى "الدواء، والأكل، وحفر نفقٍ".
تقول "فاطمة": "أثناء عملي بالصخر، خططت لحفر نفقٍ لنهرب من خلاله، وفي منتصف الطريق تمّ كشفنا، ونقلوني على إثر ذلك إلى الزنازين الانفرادية، ولاقيت صنوف التعذيب مجددًا".
استمرت مغامرات "فاطمة" في السجون "الإسرائيلية"، وفي كلِ مرةٍ يتم عزلها "بالانفرادي"، وتعذيبها، حتّى أنهكها المرض، وبدأت تتقيأ الدم، وأصابتها قرحة في المعدة، وكادت تفقد نظرها من شدّة التعذيب، حتى قرروا إبعادها إلى الأردن.
دعتنا "فاطمة" إلى زيارتها في المرة القادمة، لتلخّص لنا حكايتها المختبئة في ذاكرة الوطن، وتشمل معاناة الغربة في الأردن، وخوضها النضال تحت اسم "الجبهة الشعبية"، وهروبها من الأردن لسوريا سيرًا على الأقدام، ورحلتها عبر عدّة بلدانٍ عربية، حتى وصولها إلى غزة، كونوا بالقرب في الجزء الثالث والأخير من حكاية "فاطمة الحلبي".
الجزء الثالث
يبدو أنّ حكاية فاطمة الحلبي مع السلاح لم تتوقف بعد دخولها سجن الرملة، ولم تهتز عزيمتها حينما أخبرها المحقق: "سنعذّبك حتى نهدّ قواكِ، ثم نبعدك إلى دولة صديقة لنا"، مضيفًا أثناء اعتقالها لدى الاحتلال الإسرائيلي: "لا تحلمي أن نعيدك لغزة ما دامت (إسرائيل) في الوجود".
تولّت "الحلبي" قيادة الأسيرات من قوات التحرير داخل سجن "الرملة"، وكانت لها كلمتها أمام غطرسة الاحتلال، ما أدّى بها إلى جولاتٍ مستمرة داخل "المسلخ" الذي شُبحت به، وفقدت بداخله "بصرها، وكليتها، والقدرة على السير"، وأصابها كسرٌ في الرقبة نتيجة إفشالها لمحاولات الاحتلال بـ"صمّها، أو عميها"، إضافة إلى تقيؤها الدم بشكلٍ مستمر.
"الرسالة" وفي اخر حلقاتها من شهادة الحلبي على العصر طرقت باب ذكرياتها ومغامرات ابعادها للأردن وهروبها الى سوريا واتصال الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بها للمكوث في بغداد ومن ثم انتقالها للجزائر الى ان عادت لأرض الوطن غزة.
"تيقن الاحتلال خلال اعتقالي أنّه حصل على مُراده في كسر قوّتي" تقول الحلبي، وتكمل حديث الماضي لـ"الرسالة": "بعد سجني لـ6 سنوات ونصف بتهمة إنشاء تنظيم عسكري معاد لـ(إسرائيل)، قرروا إبعادي إلى الأردن".
الإبعاد
جاء القرار من المحكمة الإسرائيلية بإبعاد فاطمة إلى الأردن، مع إبقاء الحكم عليها لـ(20 عامًا) حال جرى سجنها مرة أخرى لأي تهمةٍ تسجن عليها، وكانت رحلة الحرية ملآى بالمطبّات التي توقفنا عند واحدةٍ منها.
في فجرِ يوم الاثنين قبل ما يزيد عن أربعين عامًا، وصل جيبٌ عسكري إلى سجن الرملة، وقرأ اسم "فاطمة الحلبي" لتكون مُبعدة إلى الأردن الشقيق.
"خرجنا في البرد القارس من سجن الرملة إلى المسكوبية في القدس" تصف رحلة العذاب التي عاشت تفاصيلها، وتوضح أنّ قوات من الاحتلال وعناصر من الصليب الأحمر كانوا يرافقونها في رحلتها.
على الحدود الشرقية من فلسطين، يقف عسكري الارتباط الأردني ينظر للقادمين، حتّى توقّف الجيب ومن فيه، وخرج منه جُنديٌ يربط في يده اليمنى "كلبشات" متصلة بسواعد فاطمة، وباليسرى ملفٌ مكتوبٌ بصياغة إسرائيلية حول نشاطات "الحلبي".
تسلّم العسكر "فاطمة" مع آذان العشاء؛ قائلين لها "أهلًا بك في الأردن الشقيق"، وعاد الجنود الإسرائيليون إلى مراكزهم في فلسطين.
تضيف الحلبي: "صعدنا في جيبٍ أردني، وساروا بنا في سردابٍ تحت الأرض، حتى وصلنا إلى زنزانة أردنية". تصمت هنيهة من الزمن، ثم تشير إلى أنّ أوّل مراسم البروتوكول كانت من ضابطٍ رحّب بها، وقال لها: "نريد الحديث قليلًا يا فاطمة".
لم ترق كلماتُ ضابط الاستخبارات الأردنية لفاطمة، فنظرت إليه بغضبٍ وحملقت بعينيها، وقالت له: "أربعة أيامٍ لم أتناول الطعام طيلة رحلة ابعادي، ولم أنم لدقيقة واحدة، وأنت تقول لي نريد الحديث.. هذه مسخرة".
صُدم الضابط من لهجة فاطمة، ودار حوارٌ بين الطرفين: قالت له: "افتح دُرج المكتب وأخرج الملف الذي استلمته من العسكري الإسرائيلي، ستجد بداخله جميع المعلومات عنّي"، رد عليها: "أرغب بالحديث معكِ بعيدًا عن الملف"، صرخت في وجهه: "ما زلت ضيفة، فأكرم ضيفك ثم إن أذن لك بالحديث؛ تتحدث"، فحملق بعينيه مستغربًا وقال: "لم أعتد على هذه اللهجة من أحد".
استمر حوار الطرفين حينما ردت فاطمة عليه: "ستعتاد على هذه اللهجة"، ثم طلبت منه أن يحضر لها سريرًا ومدفأة ويسلّمها مفتاح الزنزانة لتخلد إلى النوم، وبعد استيقاظها يكملان الحديث، فرد عليها: "وإن عارضت"، أجابته: "سأبقى كما أنا، ونتحدى بعضنا"، فعبّر عن استغرابه، وقال: "أخبرتني إسرائيل أنّك قوية، ولكن لم أتوقع بهذه الدرجة".
"تنوّعت أعمالي في لبنان، ما بين الخيرية نهارًا في مخيمات اللجوء، ومقاومة الاحتلال ليلًا، حتى فقدت نجلي البكر "بهاء"، واشتد الخناق على العائلة"
نفذ الضابط الأردني طلب "فاطمة" على مضد، وفي الصباح دعاها للحديث برفقة فنجان قهوة عربية، لكنّها رفضت، وقالت له: اتصل على أحد أقاربي لطمأنتهم على صحتي".
مخابرات الأردن
حددت المخابرات الأردنية دوامًا رسميًا لفاطمة، داخل مقرّهم، تقول: "طلبوا مني الحضور يوميًا من الثامنة صباحًا حتى الرابعة مساءً، لمدة أربعة شهورٍ متواصلة".
تمثل حديث المخابرات عن حياة فاطمة، وما يدور على الساحة الفلسطينية من أحداث وأخذِ تعقيبها عليها، ثم عرضوا عليها أن تعمل لصالحهم مقابل "شقّة، وسيارة، ورتبة رائد، وراتب مضاعف، وحراسات"، لكنّها رفضت، وطالبتهم بأن يتركوها وشأنها فقط.
كان ردّ ضابط المخابرات فور رفضها إخراجه لكشفٍ من أسماء القيادات الفلسطينية، ثم ضربه على مكتبه، وقال لها: "جميعهم جلسوا نفس جلستك، وكسرنا رؤوسهم بالمال، إلّا أنت، لم نستطع أخذ حقٍ منك ولا باطل".
أصاب فاطمة في إحدى الليالي حالة انهيار عصبي، ونقلت على إثرها إلى مستشفى "جيش التحرير الفلسطيني" بالأردن، ومكثت بداخله ما يقرب عامين ونصف.
تتابع: "إن خرجت من باب المستشفى أجد ضباطًا أردنيين يعملون كسائقين، ولم تصدف مرة أن صعدت مع عامل أجرة حقيقي.. كانوا يراقبونني عن كثب".
وضمن مسلسل المخابرات الأردنية، مثّل عليها أحد الضباط دور عاشقٍ، ثم طلب منها أن تفجّر مكانًا وسط البلاد، لكنّها وبّخته وتركته يعيش قصة غرامه حتى تنفذ خطة هروبها.
الهروب إلى سوريا
وبعدما اشتد الخناق عليها من جميع المحاور، ومكوثها في الأردن لعامين ونصف، جهّزت "فاطمة" خطة هروبٍ من الأردن إلى سوريا، وبدأت بتنفيذها مساء أحد الأيّام، تقول: "نظرت من نافذة البيت، فوجدت ضباطًا أردنيين يريدون اقتحامه بعدما اكتشفوا ارتباطي بالمقاومة الفلسطينية أثناء تواجدي في بلادهم".
تسلّحت "فاطمة" بمسدسٍ اشترته فور تنسمها الحرية، ومكّنت نفسها بالملابس الثقيلة، ثم اتصلت على الضابط الممثل لدور العاشق، وطلبت منه انتظارها في أحد الأماكن، وقفزت من نافذة البيت إلى أخرى.
تقول: "خرجت من منزلي إلى بيت الجيران، ثم توالت عملية الهروب من مكانٍ لآخر بعيدًا عن العيون، وبعدما وصلت إلى الشارع العام؛ أوقفت سيارة أجرة أقلتني إلى مدينة اربد الأردنية على الحدود السورية".
التقت فاطمة بشخص مقرب لجيش التحرير الفلسطيني، واصطحبها كـ"دليل طرق" إلى الحدود السورية؛ سيرًا على الأقدام.
"لم أجد الحق إلّا في نهج حماس، وهم من بقوا متمسكين بخيار البندقية، وقناعتهم لم تتغير بأنّ ما أخذ بالقوة لا يسترد إلّا بالقوة"
وصلت "الحلبي" إلى الحدود الأردنية السورية، وكانت مليئة بالضباط المدججين بالسلاح، تصف لنا "فاطمة" المشهد: "في غضون ثوان معدودة؛ قطعت السلك الحدودي بين البلدين، وتمكنّت من التخفّي بين أشجار الذرة، حتى وصلت إلى سوريا".
لم تكن حفاوة الاستقبال "لفاطمة" في سوريا كما وعدها أحد عناصر تنظيم الجبهة الشعبية، لا سيما أنّها عملت تحت اسمهم طيلة تواجدها في الأردن.
العراق ترحب بك
وفي سوريا عمدت "فاطمة" على استرجاع قوّتها التي سلبتها منها المخابرات الأردنية، ومن قبلها الاحتلال الإسرائيلي، فاستعادت نشاطها مع قيادة الجبهة الشعبية، وعملت في المخيمات الفلسطينية.
وطيلة أربع سنواتٍ في سوريا، كان همّها أن تضرب الاحتلال الإسرائيلي بأماكن موجعة لتنتقم من "بصرها وصحتها التي سلبها إياها"، وعادت إليها تدريجيًا بعد العلاج.
وفي أحد الأيّام؛ وصلها اتصال من الرئيس العراقي صدام حسين، أخبرها أنّ "العراق يرحب بك، وببندقيتك، فإن جئتِ إليه فرشنا لكِ الأرض وردًا وياسمينًا".
تتابع حديثها متبسمة: " طلب مني أن أستقر في تكريت مع ابني بهاء الذي أنجبته في سوريا، لكنني رفضت لأبقى في أقرب نقطة تماس مع الاحتلال الإسرائيلي".
اشتدّت الأوضاع سوءًا في سوريا بعدما واجهت "فاطمة" الاحتلال في الخطوط الأولى، فسافرت إلى لبنان، وأكملت طريقها حتى أصيبت في ظهرها برصاصة "إسرائيلية"، ما زالت آثارها موجودة حتى جلوسنا برفقتها.
تنوّعت أعمال الحلبي في لبنان، ما بين الأعمال الخيرية نهارًا في مخيمات اللجوء، ومقاومة الاحتلال ليلًا، حتى فقدت نجلها البكر "بهاء"، واشتد الخناق عليها وعلى عائلتها.
تقول: "سافرت مجددًا إلى الجزائر، وتعرضت لأشد أنواع التحقيقات من المخابرات، وبقيت فيها حتى عام (1995)، ثم أجريت تنسيقًا باسم إحدى شقيقاتي، واستطعت العودة إلى غزة".
وفي عودة الحلبي إلى غزة، تكون قد كسرت مقولة ضابط المخابرات الإسرائيلي لها: "لا تحلمي أن نعيدك لغزة ما دامت إسرائيل في الوجود".
وفور وصول "فاطمة" إلى أرض الوطن، أرسلت مخابرات السلطة الفلسطينية رجالها لتقديم إغراءاتٍ لانضمامها لهم، لكنّها رفضت.
تتابع حديثها: "بعدما توالت مطالبهم بالانضمام، قدّم الراحل ياسر عرفات مقترحًا يشابه عرض الأردن بتقديم جميع التسهيلات، والمال، والرتب العسكرية، مقابل موافقتي، لكنني أصرّيت على الرفض لأسبابٍ خاصة".
مرّت أشهرٌ على وجود "فاطمة" في غزة، حتى أتيحت لها فرصة اللقاء مع الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة حماس، فتمّت عقبها البيعة على الانضمام إلى جماعة الاخوان المسلمين، تعقّب على ذلك: "لم أجد الحق إلّا في نهجهم، وهم من بقوا متمسكين بخيار البندقية، وقناعتهم لم تتغير بأنّ ما أخذ بالقوة لا يسترد إلّا بالقوة".
إلى هنا تنتهي حلقاتنا مع الحلبي، لكنّ قصة نضالها ما زالت مستمرة، وفي آخر جملة لـ"الرسالة" تلخّص فيها تجربة نضالها، تقول: "مستمرة على نهج الإسلام، وكفاح البندقية، ولو خيّرت للنضال والتجربة مرة أخرى، لاخترت دين الحق، وقاتلت في سبيل رفع كلمة الله"