15 عاما مضت على الرحيل المفاجئ للرئيس ياسر عرفات، ولا يزال الغموض في هذه القضية سيد الموقف، ولا تزال مسببات مرضه التي أدت إلى وفاته في غضون أقل من شهر، مجهولة.
15 عاما مرت ولم يحسم بالدليل القاطع أن دولة الاحتلال هي المسؤول الأول والأخير عن تصفية «الرمز الفلسطيني»، رغم أنه لا يوجد فلسطينيان يختلفان حول المتهم الرئيسي في اغتيال عرفات، فهناك إجماع على أن إسرائيل هي من فكر وخطط ودبّر ووضع أدق تفاصيلها، وطريقة تنفيذها وموعده، وهناك في المقابل قناعة بأن الأيادي المنفذة للجريمة بالتأكيد فلسطينية بامتياز. ومرتكبوها كانوا من دائرة الرئيس الضيقة، وهم من دسوا السم في طعامه، أو أوصلوا الإشعاعات للرئيس الذي كان محاصرا في مقره لأكثر من عامين.
15 عاما مضت ولا يزال أصحاب هذه الأيدي الآثمة التي اقترفت هذه الجريمة مجهولي الهوية، أو لا يراد الكشف عن هوياتهم عن سبق إصرار وترصد، حتى «لا تكر حبات المسبحة ويكشف المستور» كما يقول المثل. 15عاما ولا تزال هذه الأيادي حرة طليقة، وربما جرت تصفية أصحابها، وفق الروايات الدارجة في أوساط السلطة، ومنها أن طبيب أسنان الرئيس عرفات الخاص، مرض فجأة أو مُرِّض فجأة، واستبدل بطبيب أسنان آخر، وجد مقتولا بعد أيام قليلة من معالجته لأسنان عرفات، وهذه رواية أول من قصها عليّ مسؤول في المنظمة، وإن ليس من الصفوف القيادية الأولى، ورددها آخرون من بعده غير مرة. 9 سنوات مرت على تشكيل لجنة التحقيق الفلسطينية من قيادات أمنية ومخابراتية، برئاسة اللواء توفيق الطيراوي مدير المخابرات العامة الفلسطينية في الضفة الغربية حتى عام 2008، ولا تزال التحقيقات مكانك راوح، وحسبما قاله لي أحد كبار أعضاء اللجنة فإنه «في كل مرة ننجح في اختراق جدار يطل علينا جدار آخر وهكذا»، وقال الطيراوي في تصريحات في ذكرى رحيل عرفات يوم الاثنين الماضي، إن حركة فتح تقوم بعمل دائم ودؤوب من أجل الوصول إلى النتائج، في ما يخص اغتيال أبو عمار، وسنصل إلى نتيجة ترضي كل أبناء الشعب الفلسطيني». ولكنه في الوقت نفسه قال:»إن المواطنين في عجلة من أمرهم لمعرفة القاتل، ولكن حقيقة الأمر أن نتائج التحقيق بجرائم الاغتيال، التي تطال الزعماء والقادة كما أبو عمار لا تقاس بالوقت!».
ويستنتج من الحديث أن اللجنة لم تحرز أي تقدم من أي نوع، يمكن الارتكاز عليه في عملية البحث عن قاتل «القائد الرمز»، الذي لا تزال حركة فتح تستمد شعبيتها من شعبيته، ويتحدث عنه الناس وكأنه لا يزال على قيد الحياة، رغم مرور كل هذه السنوات على غيابه. و6 سنوات مرت على النتائج التي توصل إليها فحص رفات الرئيس عرفات، وأثبتت أنه مات مسموما، كما أثبتت وجود آثار لنسبة كبيرة من مادة البولونيوم المشع 210 في رفاته. ولم تساعد هذه الاستنتاجات لجنة التحقيق في إنجاز الاختراق المطلوب في عملها. لم يكن من السهل الوصول إلى عرفات ودس السم في طعامه أو نقل البولونيوم إليه. فهو شكاك بطبيعته، ولم يكن يثق بأحد، والدليل على ذلك ما رواه عبد الوهاب دراوشة، عندما ترأس وفدا من الحزب الديمقراطي العربي داخل أراضي 48، لزيارة الرئيس عرفات في رام الله. واختار أحد أعضاء الوفد أن يجلب معه طبقا من البقلاوة النصراوية، حسبما جاء في تقرير للزميل وديع عواودة.
وبادر رئيس الوفد في مستهل اللقاء إلى تبليغ الرئيس أبو عمار بذلك، داعيا عضو الوفد لتقديم البقلاوة على المجتمعين داخل المقاطعة. وفور سماعه بذلك نهض أبو عمار من مقعده على الفور، وأخذ طبق البقلاوة وراح يقدمها للجميع بنشاط وفرح وهو ينادي على مساعديه وحراسه لتناولها، وتناول البقلاوة المساعدون والموظفون، ولكن عرفات لم يتناولها. وانتبه لذلك بعض الزوار وتساءلوا لماذا لم يتناول أبو عمار البقلاوة وهو الذي قدمها علما «بأن طباخ السم يذوقه» كما يقول المثل الشعبي؟ هل هو الخوف من مرض السكري؟ أو هو الحدس الأمني الذي يدفعه للحذر والتحفظ من كل شيء، كما قيل عنه الكثير في الماضي؟ والرد أنه الحدس الأمني.
ومن تجربتي الخاصة، انني توجهت اثناء وجودي في تونس في مطلع تسعينيات القرن الماضي، برفقة صديق لتقديم التهاني للرئيس عرفات بعيد الأضحى، وجلسنا كما المهنئين الآخرين الذين كانت تعج بهم قاعة الاستقبال، ولم يرفع أبو عمار عينيه الصقراويتين، عني منذ لحظة دخولي القاعة وجلوسي، لا حبا بي طبعا، بل شكا بأنني كنت الوجه الوحيد غير المألوف لديه في القاعة. ولم يهدأ له بال حتى عرف هويتي.
لم يُحرز أي تقدم، يمكن الارتكاز عليه في عملية البحث عن قاتل «القائد الرمز»، الذي لا تزال حركة فتح تستمد شعبيتها من شعبيته
يقول المثل الشعبي «لا يقع إلا الشاطر»، معروف عن الرئيس عرفات انه حذر إلى أبعد الحدود في حياته وتحركاته، ما أبقاه حيا لسنوات طوال، رغم محاولات إسرائيل العديدة لاغتياله، إلى أن تمكنت من صيده وهو ضعيف الحيلة في مقر في رام الله الذي بقي فيه محاصرا من أواخر 2002 حتى
نقله في 29 أكتوبر/تشرين الأول 2004 إلى مستشفى بيرسي العسكري في احدى ضواحي باريس. والشيء بالشيء يذكر لم يخضع جثمان عرفات للتشريح في فرنسا، ولم يحدد سبب وفاته، أو يكشف عن سجله الطبي، وهو ما أثار الاشتباه في حينها في أوساط الفلسطينيين، بأنه مات مسموما. لكن السؤال متى وكيف؟
كان للرئيس الراحل أعداء كثر ومن ألدهم عداء، رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك الجنرال أرييل شارون الذي كان يردد دوما أن عرفات أصبح ليس ذي صلة irrelevant. وتأكيدا لدور شارون في جريمة اغتيال عرفات، ما جاء في كتاب لدوري دان الصادر باللغة الفرنسية بعنوان «أسرار شارون»، ويذكّر دان في كتابه بالمكالمة الهاتفية التي تمت بين شارون والرئيس الأمريكي جورج بوش الابن في 14 إبريل/نيسان 2004 ما يوحي بأن ذاك اليوم كان اليوم الذي حصل فيه شارون على الضوء الأخضر للتخلص من عرفات. ويقول دان في الكتاب إن شارون أبلغ بوش بأنه لا يرى نفسه ملتزما بعد اليوم بوعده السابق له في مارس/آذار 2001 بعدم المساس بعرفات، على خلفية العمليات التفجيرية في المدن الإسرائيلية. وأضاف «عندها أجاب بوش أنه من المفضل ربما أن يبقى مصير عرفات بيد الله، عندئذ سارع شارون إلى الرد «لكن الله يحتاج أحيانا ليد المساعدة». وحسب دان لم يعقب بوش على كلمات شارون هذه، ففهم الصمت رضا». وأشار في كتابه إلى أن الرئيس الأمريكي لم يمنح شارون ضوء أخضرا بتصفية عرفات، ولكنه أيضا لم يمل عليه التزامات وقيودا جديدة، كما انه صمت على ملاحظة شارون حول عمل الله. وقال إن شارون «سُرّ بذلك وسارع لتبليغ صحافيين إسرائيليين بأنه بات طليقا في التعامل مع عرفات.
وأختتم بتساؤلات لماذا احتاج الأمر لست سنوات لتشكيل لجنة التحقيق؟ ولماذا لم تكشف لجنة التحقيق عن أي من النتائج التي توصلت إليها إن وجدت أصلا، على مدى السنوات التسع من عمرها؟ وربما السؤال الذي لا بد من طرحه هو هل فعلا توصلت اللجنة إلى أي نتائج كبرت أم صغرت؟ هناك كما يبدو من أقوال عضو اللجنة الكبير، أن هناك من يضع العراقيل في طريق عمل اللجنة، فهل هي أطراف فلسطينية، ومن هي أن وجدت؟ وإذا كانت اللجنة تواجه صعوبات، فلم لا تتشاطر مع الشعب الفلسطيني التواق لمعرفة الأطراف المتآمرة على زعيمه؟ أم أن المعيقات هي الخوف من أن تتدحرج رؤوس كبيرة. وكم من الوقت يحتاج التحقيق في اغتيال الزعماء؟ ولماذا يختلف عن التحقيق في قضايا عموم الناس؟، التحقيقات تثير تساؤلات أكثر مما تعطي إجابات.
القدس العربي