أ. يوسف علي فرحات
ومن القواعد التي وضعها الإسلام في التحلي والتحريم
ثالثاً : التحريم يتبع الخبث والضرر
اقتضت رحمة الله بعباده أن جعل التحليل والتحريم لعلل معقولة، راجعة لمصلحة البشر أنفسهم، فلم يحل سبحانه إلا طيباً ولم يحرم إلا خبيثاً . وقد أصبح معروفاً في الإسلام أن التحريم يتبع الخبث والضرر، فما كان خالص الضرر فهو حرام، وما كان خالص النفع فهو حلال، وما كان ضرره أكبر من نفعه فهو حرام، وما كان نفعه أكبر فهو حلال، وهذا ما صرح به القرآن الكريم في شأن الخمر والميسر ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ([ البقرة:219]
وليس من اللازم أن يكون المسلم على علم تفصيلي بالخبث أو الضرر الذي حرم الله من أجله شيئا من الأشياء، فقد يخفى عليه ما يظهر لغيره، وقد لا ينكشف خبث الشيء في عصره، ويتجلى في عصر لاحق، وعلى المؤمن أن يقول دائماً: (سمعنا وأطعنا ).
رابعاً : في الحلال ما يغني عن الحرام
ومن محاسن الإسلام ومما جاء به من تيسير على الناس أنه ما حرم شيئاً عليهم إلا عوضهم خيراً منه مما يسد مسده، ويغني عنه، كما بين ذلك ابن القيم رحمه الله.
حرَّم عليهم الاستقسام بالأزلام وعوضهم عنه دعاء الاستخارة . وحرَّم عليهم الربا وعوضهم التجارة الرابحة . وحرَّم عليهم القمار، وعوضهم عنه أكل المال بالمسابقة النافعة في الدين بالخيل والإبل والسهام . وحرم عليهم الحرير، وأعاضهم عنه أنواع الملابس الفاخرة من الصوف والكتان والقطن.
وهكذا إذا تتبعنا أحكام الإسلام كلها، وجدنا أن الله جل شأنه لم يضيق على عباده في جانب إلا وسع عليهم في جانب آخر من جنسه .
خامساً : ما أدى إلى الحرام فهو حرام
ومن المبادىء التي قررها الإسلام أنه إذا حرَّم شيئاً حرَّم ما يفضي إليه من وسائل وسد الذرائع الموصلة إليه.
فإذا حرم الزنا مثلا حرم كل مقدماته ودواعيه، من تبرج جاهلي، وخلوة آثمة، واختلاط عابث، وصورة عارية، وأدب مكشوف، وغناء فاحش… الخ.
ومن هنا قرر الفقهاء هذه القاعدة: (ما أدى إلى الحرام فهو حرام).
سادساً : التحايل على الحرام حرام
وكما حرم الإسلام كل ما يفضي إلى المحرمات من وسائل ظاهرة، حرم التحايل على ارتكابها بالوسائل الخفية، والحيل الشيطانية . كما حدث مع اليهود الذين حرَّم الله عليهم الصيد في السبت، فاحتالوا على هذا المحرم، بأن حفروا الخنادق يوم الجمعة، لتقع فيها الحيتان يوم السبت، فيأخذوها يوم الأحد.
ومن الحيل الآثمة تسمية الشيء بغير اسمه، وتغيير صورته مع بقاء حقيقته ، مثل تسمية الخمور ( مشروبات روحية ) والرقص الخليع (فنا) والربا (فائدة) وهكذا.
خامساً : النية الحسنة لا تبرر الحرام
ينظر الإسلام إلى الحرام بعين الخطورة ، لذا فإن الحرام هو الحرام مهما حسنت نية فاعله، وشرف قصده، ومهما كان هدفه نبيلاً، ولا يرضى الإسلام أبداً أن يتخذ الحرام وسيلة إلى غاية محمودة، لأن الإسلام يحرص على شرف الغاية وطهر الوسيلة معاً. ولا تقر شريعته بحال مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) أو مبدأ (الوصول إلى الحق بالخوض في الكثير من الباطل) بل توجب الوصول إلى الحق عن طريق الحق وحده.
فمن جمع مالاً من ربا أو سحت أو لهو حرام أو قمار أو أي عمل محظور، ليبني به مسجداً أو يقيم مشروعاً خيرياً، أو.. أو .. لم يشفع له نبل مقصده، فيرفع عنه وزر الحرام، فإن الحرام في الإسلام لا يؤثر فيه المقاصد والنيات.
سابعاً : اتقاء الشبهات خشية الوقوع في الحرام
ومن رحمة الله تعالى بالناس أنه لم يدعهم في غمة من أمر الحلال و الحرام، بل بين الحلال وفصل الحرام، كما قال تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) سورة الأنعام:119.
فأما الحلال البين فلا حرج في فعله. وأما الحرام البين فلا رخصة في إتيانه -في حالة الاختيار.
وهناك منطقة بين الحلال البين والحرام البين، هي منطقة الشبهات التي يلتبس فيها أمر الحل بالحرمة على بعض الناس، إما لاشتباه الأدلة عليه، وإما للاشتباه في تطبيق النص على هذه الواقعة أو هذا الشيء بالذات.
وقد جعل الإسلام من الورع أن يتجنب المسلم هذه الشبهات، حتى لا يجره الوقوع فيها إلى مواقعة الحرام الصرف. وهو نوع من سد الذرائع . ثم هو كذلك لون من التربية البعيدة النظر، الخبيرة بحقيقة الحياة والإنسان.
ثامناً : لا محاباة ولا تفرقة في المحرمات
الحرام في شريعة الإسلام يتسم بالشمول والاطراد، فليس هناك شيء حرام على العجمي حلال للعربي وليس هناك شيء محظور على الأسود مباح للأبيض، وليس هناك جواز أو ترخيص ممنوح لطبقة أو طائفة من الناس تقترف باسمه ما طوع لها الهوى باسم أنهم كهنة أو أحبار أو ملوك أو نبلاء. بل ليس للمسلم خصوصية تجعل الحرام على غيره حلالا له. كلا، إن الله رب الجميع، والشرع سيد الجميع، فيما أحل الله بشريعته فهو حلال للناس كافة، وما حرم فهو حرام على الجميع إلى يوم القيامة.
تاسعاً : الضرورات تبيح المحظورات
ضيق الإسلام دائرة المحرمات، ولكن بعد ذلك شدد في أمر الحرام، وسد الطرق المفضية إليه، ظاهرة أو خفية، فما أدى إلى الحرام فهو حرام، وما أعان على الحرام فهو حرام، وما احتيل به على الحرام فهو حرام .
والإسلام بإباحته المحظورات عند الضرورات إنما يساير في ذلك روحه العامة، وقواعده الكلية، تلك هي روح الميسر الذي لا يشوبه عسر والتخفيف الذي وضع به عن الأمة الآصار والأغلال التي كانت من قبلها من الأمم. وصدق الله العظيم( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( [سورة البقرة:185]
ومن هنا ضاقت دائرة المحرمات في شريعة الإسلام ضيقا شديدا، واتسعت دائرة الحلال اتساعا بالغا. ذلك أن النصوص الصحيحة الصريحة التي جاءت بالتحريم قليلة جدا، وما لم يجيء نص بحله أو حرمته، فهو باق على أصل الإباحة، وفي دائرة العفو الإلهي.
وفي هذا ورد الحديث "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام. وما سكت عنه فهو عفو. فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا، وتلا (وما كان ربك نسيا)" سورة مريم:64.
وعن سلمان الفارسي: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا لكم" فلم يشأ عليه السلام أن يجيب السائلين عن هذه الجزئيات، بل أحالهم على قاعدة يرجعون إليها في معرفة الحلال والحرام، ويكفي أن يعرفوا ما حرم الله، فيكون كل ماعداه حلالاً طيباً.
وقال رسول الله: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها".