حرصت وسائل الإعلام الإسرائيلية مؤخرا على التوسع في الحديث عن "الانقلاب" الذي حدث على توجهات وزير الحرب الصهيوني الجديد نفتالي بنيت، بعد أن تولى منصبه الحالي؛ حيث تزعم هذه الوسائل أنه بات متحمسا جدا لإحداث تحول على البيئة الاقتصادية والإنسانية في قطاع غزة، على اعتبار أن هذا التحول يخدم في الأساس المصلحة الإستراتيجية الإسرائيلية ويقلص من فرص اندلاع مواجهات تهدد أمن المستوطنات في جنوب الكيان.
وضمن المؤشرات التي ترصدها وسائل الإعلام الصهيونية للتدليل على التوجهات الجديدة لبنيت، الذي يقود اليمين الديني في الكنيست، والذي كان الأكثر حماسا لتشديد الحصار على القطاع، تتم الإشارة بشكل خاص إلى التوجيهات التي أصدرها مؤخرا لقيادة الجيش لدراسة إمكانية تدشين الجزيرة الصناعية في عرض البحر قبالة ساحل غزة وتدشين مطار بتمويل دولي، ومشاريع أخرى لتحسين الواقع الاقتصادي في القطاع.
لأول وهلة، تبدو هناك عدة عوامل يمكن أن تدفع بنيت والمؤسسة الأمنية إلى التوجه نحو إحداث تحول على البيئة الإنسانية والاقتصادية في القطاع. فـ(تل أبيب) تعي تماما أن تدهور الأوضاع الاقتصادية كان السبب الرئيس وراء معظم الحروب وجولات التصعيد التي اندلعت بين المقاومة و(إسرائيل) خلال العقد الأخير.
إلى جانب ذلك، فإن الكثيرين في (إسرائيل) يرون أن قدرة (إسرائيل) على حسم المواجهة العسكرية في مواجهة المقاومة في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية على هذا النحو تؤول إلى الصفر.
وحتى لو توصلت (إسرائيل) لقرار بحسم المواجهة مع المقاومة (وهي قادرة من ناحية عسكرية)، فإن التحدي الذي سيقف أمامها يتمثل في عدم وجود طرف يمكن أن يتولى زمام الحكم في القطاع، وهذا ما سيجعلها مضطرة للتورط في وحل القطاع لفترة طويلة، مع كل ما ينطوي عليه هذا السيناريو من مخاطر أمنية واقتصادية وسياسية.
من ناحية ثانية، يفضل اليمين الإسرائيلي بشكل تقليدي تكريس الفصل السياسي بين (إسرائيل) والضفة الغربية، وهو ما يجعله أكثر تحمسا لإفشال جهود المصالحة التي يمكن أن تقود إلى استعادة الوحدة السياسية بين المنطقتين. وفي الوقت ذاته، يفترض أن يدفعه ذلك إلى العمل على تكريس بيئة اقتصادية وإنسانية أفضل في القطاع توفر عوامل بقاء الانفصال.
ومع كل ما تقدم، يتوجب الحذر من التسريبات الإسرائيلية بشأن توجهات بنيت واليمين الإسرائيلي تجاه غزة. فـ(إسرائيل) لا يمكنها أن تعمل على تحسين الواقع الاقتصادي والإنساني بشكل جذري في القطاع في ظل وقوعه تحت سيطرة حركة مقاومة، مثل حركة حماس.
(إسرائيل) تخشى أن يمثل هذا الواقع مسوغا للفلسطينيين لدعم خيار المقاومة والتمرد على حكم السلطة في الضفة، على اعتبار أن هذا السيناريو سيدلل على أن العمل المقاوم يؤتي أكله، كما قال يورام كوهين، رئيس جهاز المخابرات الداخلية الإسرائيلي السابق.
في ذات السياق تعي (إسرائيل) طابع التوجهات الأيدلوجية والعقائدية لحركة حماس تجاهها، سيما رفضها لوجودها، وبالتالي لا يمكن أن تسمح ببلورة بيئة يمكن أن تساعد الحركة على تعزيز قوتها العسكرية، حتى لو لم تستخدم هذه القوة ضدها في الوقت الحالي بسبب ظروف القطاع.
من هنا، حتى المؤسسة العسكرية ترى أن حل مشكلة قطاع غزة على المدى البعيد يتمثل في الحسم العسكري عندما تتوفر الظروف المناسبة لذلك، وهذا ما أكده رئيس الأركان السابق جادي إيزنكوت في المقابلة التي أجرتها معه مؤخرا صحيفة "يديعوت أحرنوت"، مع العلم أن إيزنكوت عادة ما يتم عرضه على أساس أنه يتبنى موقفا "معتدلا" تجاه غزة.
لكن (إسرائيل) تفضل في الوقت الحالي استراتيجية "إدارة الأزمة"، التي تتم برعاية نظام السيسي، عبر التوصل إلى تفاهمات تهدئة هشة، على اعتبار أن هذه الاستراتيجية تمثل أفضل آلية عمل في مواجهة التحديات التي تمثلها غزة في الوقت الحالي.
لكن ليس هذا فقط الذي يدفع بنيت للترويج لفكرة إحداث تحول على الواقع الإنساني والاقتصادي في القطاع عبر توظيف التسريبات الموجهة في وسائل الإعلام الإسرائيلية؛ بل هناك أسباب أخرى تدفعه لهذا النمط من التعاطي، يمكن حصرها في التالي:
أولا: بنيت، الذي يراهن على دوره في منصب وزير الحرب في تعزيز مكانته الشخصية ومكانة حزبه "اليمين الجديد" يعي أن التصعيد مع غزة لا يضمن له تحقيق هذا الهدف. وخير دليل على ذلك ما حدث مع وزير الحرب الأسبق أفيغدور ليبرمان، الذي أسرف في إطلاق التهديدات ضد غزة وكانت النتيجة أنه اضطر للاستقالة بسبب العجز في مواجهتها.
ثانيا: نافذة الفرص التي تمثلها الاحتجاجات الداخلية في إيران والتي تسمح لبنيت بقيادة سياسية تصعيدية وغير مسبوقة ضد التمركز الإيراني في سوريا في أقل مستوى من المخاطرة، وهو ما يسمح له بتقديم أدلة على "نجاحات" عسكرية أمام الرأي العام الصهيوني، تمكنه من تعزيز مكانته. وهذا يفرض عليه تبريد التوتر على صعيد جبهة غزة.
ثالثا: الحكومة التي تولى فيها بنيت منصبه الحالي هي حكومة انتقالية، وهو لن يظل في منصبه هذا أكثر من 5 شهور، وبالتالي فهو يسمح لنفسه بإطلاق التعهدات دون أن يكون بالإمكان اختبار أفعاله على اعتبار أن إجراء الانتخابات وتشكيل حكومة جديدة يعني أن هذه الحكومة لن تكون ملزمة بذلك.