مع انتهاء عام 2019 تزايد الجدل والنقاش داخل أروقة المؤسسات وبين الشخصيات المركزية في الكيان الصهيوني حول الواقع الاستراتيجي الذي يمر به الكيان في ظل المتغيرات من حوله، وتنامي التحديات التي تحدق به، والنابعة بالأساس من تعاظم قوة المقاومة العسكرية، وتزايد حضورها الجماهيري والتأييد لخطها السياسي داخل فلسطين وخارجها.
تزايدت حدة هذه النقاشات بسبب حالة الفراغ السياسي والقيادي التي يعيشها الكيان بعد معركة حد السيف التي تسببت بانهيار حكومة الاحتلال أواخر عام 2018، وعجز المكونات الحزبية عن تشكيل حكومة حتى الآن.
تكشف مجمل القراءات والتقديرات الرسمية منها، وتلك التي تتناولها أقلام كبار الكتاب في الكيان الصهيوني، أن الاحتلال وبرغم كل ما يمتلك من قدرات، إلا أنه يمر بانسداد في وضعه الاستراتيجي متمثلاً بعجزه عن ترجمة ما يمتلكه من قدرات عسكرية إلى نصر حقيقي وواضح على المقاومة على الجبهات المختلفة، أو ترجمة ذلك إلى نفوذ سياسي يحسن من وضع الكيان الاستراتيجي في أي من المجالات أو المستويات.
وتشتكي هذه التقديرات والتقييمات ممّا تسميه حساسية "المجتمع الإسرائيلي" للخسائر، وهو تعبير عن الخوف والرعب الذي يعتري الكيان وجيشه من أي خسائر يمكن أن يتكبدها في صراعه مع المقاومة، وغياب قيمة التضحية عند شرائح هذا المجتمع؛ الأمر الذي أدى إلى ارتفاع معدلات التهرب من الخدمة العسكرية إلى 33%.
إن هذه الأزمة أصبحت تحرمه من إمكان حسم المعارك، وهو ما دفع قادة الجيش لدراسة تغيير دلالة مصطلح الحسم أو النصر، حتى لا يكون جيش العدو مجبراً على تقديم صورة نصر على المقاومة، بعد تزايد النقاش الذي يوحي بيأس صناع القرار من قدرة الجيش على حسم أي من الجبهات الساخنة معه.
تزداد التحديات التي تواجه الكيان الصهيوني مع تعدد الجبهات الساخنة التي تحيط به المتمثلة في جبهة غزة، والضفة الغربية، والجبهة الشمالية، وخشيته من اشتعالها في وجهه بسبب سياسته العدوانية، ما يعني تشتتا لقدرته المحدودة، وتلاشي قدرته على حسم أي من هذه الجبهات، في ظل إصرار المقاومة على استراتيجية مراكمة القوة، برغم كل الصعاب والمعوقات التي تواجهها، مضافا إلى ذلك ما يعانيه كيان الاحتلال من عقدة ضعف مركزية، والتي تتمثل بغياب العمق الاستراتيجي.
ومن المؤسف أن ترى هذه التقديرات في الخلافات التي تمر بها الأمة، وبعض الصراعات المذهبية المفتعلة، فرصة لتعزيز حضورها عبر الترويج لوجود عدو مشترك بين بعض الدول والعدو الإسرائيلي، ومن الممكن أن ترى ذلك مدخلا لتعزيز العلاقات مع بعض الأطراف، إلا أن التقدير الاستراتيجي الأخير يؤكد أن العلاقات الإسرائيلية مع العالم العربي شهدت استقراراً، ولم تحدث اختراقات جديدة برغم من استماتة نتنياهو للترويج لتنامي علاقته مع بعض أطراف المحيط العربي، ومرد ذلك هو حيوية الشعوب العربية ومراهنتها على خيار المقاومة وتشكيلها حائط صد أمام هذه الأنظمة.
مجمل هذه الأزمة الاستراتيجية التي يمر بها الكيان الصهيوني، والمعضلات التي تواجهه في الساحات المختلفة، أصبحت أكثر وضوحا مع إصرار المقاومة الفلسطينية على مراكمة قوتها العسكرية وتماسك الحاضنة الشعبية من حولها، ووحدة الموقف والقرار في ميدان الفعل المقاوم، وعلى مستوى القرار السياسي، مضافاً إليه تماسك وتزايد المقاومة العربية والإسلامية من حول الكيان الصهيوني، وامتلاكها مقدرات عسكرية تزداد كماً ونوعاً، وتعاظم الرفض لهيمنة الاحتلال وعنجهية حلفائه متمثلة في الولايات المتحدة.
هذه القراءة تؤكد قدرة المقاومة الموحدة على منع الاحتلال من تمرير سياساته، ودفعه إلى تغيير استراتيجياته القديمة التوسعية واستبدالها باستراتيجيات دفاعية، وإن الأمة بكل مكوناتها مطالبة بحشد قواها، وتوحيد جهودها، لمواجهة مشروع الاحتلال وسياسته، والمستقبل سيثبت أن الأمة إذا التفت حول مقاومتها فإنها قادرة على هزيمة المشروع الصهيوني، وهو الأمر الضروري لإطلاق مسار نهضة الأمة وتكاملها في مشروع حضارة متكامل تشترك كل مكوناتها فيه.