طالعنا باهتمام خطاب رئيس السلطة محمود عباس مباشرة بعد مراسم حفل إشهار صفقة ترامب. استغرق الخطاب قرابة نصف ساعة في اجتماع عاجل للقيادة الفلسطينية جمع ممثلين عن قيادتي حماس والجهاد الإسلامي بعد فترة طويلة غاب عنا هذا المشهد، ومن القاعة التي كانت في وقت سابق منصّة لتفريغ غضب الرئيس.
وكالعادة لم تنقل الكاميرا غير مشهد "كبير القعدة"، بعد أن كنت أتطلع للعناية بإخراج الصورة أو اللوحة الوطنية التي تختصر الرد. مشهد الرئيس وإلى يمينه حماس مثلاً على طاولة القرار في المقاطعة. قد يكون ذلك كفيلاً بأن يستفرغ نتنياهو الماء الذي شربه قبل بدء خطابه.
أطلق الرئيس أبو مازن ردّه، وأضاف إجراء جديداً لسلسلة طويلة من الردود المعطلة، وهو "تغيير الدور الوظيفي للسلطة الفلسطينية"، وهو في أساسه اعتراف بأن نشأة السلطة مرتبطة بواجبات ومسؤوليات، يحددها اتفاق النشأة، ولا تملك السلطة صلاحية تغيير هذا الدور، إلا إذا قررت اعتبار نفسها غير ملزمة بالاتفاق، وتلك حينها حكاية أخرى تحتاج جرأة من الطرف الذي يرغب بإعادة الصراع إلى بداياته.
لكن ما لم يتطرق له الرئيس هو الموقف من الموقف العربي الرسمي من الصفقة، بين دول شهود عليها، وأخرى أبدت مواقف "مائعة" لأنها تدرك تبعات الرفض الصريح، فكان ذلك أخطر ما في الصفقة، بل الأشد خطراً، وليس الموقف الأمريكي المنحاز أساساً للاحتلال، فإجراءات التصفية والضم والإحاطة والتغلغل تجري وفق مخططات توسعية أبعد من تفكير ترامب ومصالحه، وأكبر من أن تتسعها حقائبه، فهو مجرد أداة لمسألة مألوفة.
وهذه المخططات تنطلق من قاعدة ثابتة في الفكر الصهيوني، هي "لا صهيونية بلا استيطان، ولا دولة يهودية بدون إخلاء العرب". وينقل في سياق البرهان ما قاله الجنرال موشي ديان، في صحيفة "جيروزاليم بوست" بتاريخ 10 أغسطس 1967م: "إذا كنا نملك التوراة، ونعتبر أنفسنا شعب التوراة، فمن الواجب علينا أن نمتلك جميع الأراضي المنصوص عليها في التوراة" !
تجنب أبو مازن التعليق على الموقف العربي، وقد يكون ذلك غير متضمناً في خطابه أو عبارة مرّ عنها لاعتبارات تتعلق بفشلنا. لم يرد الرئيس أن يعرّي دبلوماسيتنا عديمة الوزن، التي وقفت متفرجة لغزو التطبيع حتى قبض الآن الثمن. لقد ثبت أنه لا يليق بنا ارتداء ربطات العنق؛ لأنها على ما يبدو تحبس الدم عن الرأس، وتسمح بتدفقه بين أرجلنا فقط.
صفقة ترامب أكملت النقص في إدارتنا للصراع، بصورة سمحت للجوار العربي بأن ينقلب بعد 18 عاماً على الإجماع الذي قررته مبادرة السلام العربية في عام 2002، بأن يكون إنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية مقدمة لتطبيع العلاقات معه. ليحصل العكس مع فارق إنهاء القضية الفلسطينية وليس إنهاء احتلالها.
لن يكون الاجتماع العربي الطارئ هذه المرة "ذراً للرماد في العيون"، عبارة يأسنا، بل سيُلحقون مواقفهم المخزية بضغوط على السلطة للقبول بالوضع القائم، والتفاوض عليه، وإيثار السلامة على الصدام مع سيّد البيت الأبيض، وسيّدهم. في وقت كانت فيه زيارة السادات لإسرائيل سبباً لقطيعة عربية لمصر، أسفرت عن نقل مقر الجامعة العربية إلى تونس.
نعيش حالة صدمة كبيرة وخشية من القادم؛ لأن الرد الرسمي إلى الآن لا يبدو بحجم الحدث، فلم يتم الإعلان عن إجراءات ضد الدول العربية الثلاث التي شهدت على البيع، فاكتفى الرئيس بإرسال رسالة "شديدة اللهجة" بخط اليد لرئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، ولم نكلف أنفسنا عناء الاتصال بالسفراء الثلاثة وسؤالهم: "هل غاية الدين أن تحفّوا شواربكم؟".