قائد الطوفان قائد الطوفان

حول "اعتدال" التيار الحريدي اليهودي

النعامي
النعامي

د.صالح النعامي

سلط انتشار وباء كورونا الأنظار على أتباع التيار الديني اليهودي الحريدي بسبب مقاومتهم للتعليمات الحكومية الاحترازية المتعلقة بمواجهة وباء كورونا.
وكان من المفاجئ أن بعض الأوساط العربية قد قدمت هذا التيار على أنه على الرغم من تطرفه الديني إلا أنه يتبنى مواقف معتدلة إزاء الصراع؛ وهو ما يستدعي تسليط الأضواء على مواقفه الحقيقية تجاه الصراع، لما له من أهمية وحضور في دائرة صنع القرار السياسي في (تل أبيب).
لم تبد القوى الدينية اليهودية الحريدية خلال العقود الأربعة الأولى من عمر الكيان الصهيوني بشكل عام ميلاً للتدخل في القضايا السياسية، سيما المتعلقة بمستقبل الصراع العربي الإسرائيلي ومستقبل الأراضي العربية المحتلة؛ وذلك لأنها رأت أنه يتوجب أن يكون على رأس أولوياتها النضال من أجل الحفاظ على طابع الدولة اليهودي، وعدم المس به.
ليس هذا فحسب، بل أعطت الزعامات الحريدية التقليدية خلال هذه الفترة الانطباع بأنها تتبنى مواقف "حمائمية" من القضايا التي تشكل الصراع مع العرب، مقارنة بالمواقف التي كانت تعبر عنها المرجعيات الدينية للمتدينين القوميين؛ باستثناء زعيم حركة "حباد" الحاخام ميلوفافيتش الذي مثل شذوذاً عن القاعدة. 
وتعود نبرة الاعتدال التي ميزت مرجعيات الحريدية الغربية في هذه الفترة إلى تخوفها من أن تبني وانتهاج مواقف متعصبة قد يقرب ويزيد من خطر الحرب، مما قد يثير غضب الشارع العلماني كونهم يعرضون الدولة لخطر الحرب في الوقت الذي لا يرسلون فيه أبناءهم للخدمة في الجيش. 
لكن هذا الواقع تغير بشكل كبير خلال العقدين الأخيرين، حيث أصبحت مرجعيات الحريدية الغربية وأتباعها يبدون اهتماماً كبيراً بالإسهام في العمل السياسي المتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي.
وقد بدا بشكل واضح أن تحولاً كبيراً طرأ على مواقف الحريدية الغربية؛ إذ تبنى أنصارها المواقف اليمينية الأكثر تطرفاً من الصراع مع العرب، ويمكن الإشارة إلى مظاهر عدة تعكس الدور الذي تلعبه الحريدية الغربية في الصراع العربي الإسرائيلي:
1- منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي حسمت الحريدية الغربية أمرها وربطت مشاركتها في أي ائتلاف حاكم أو تأييده من الخارج بأن يتولى اليمين قيادة هذا الائتلاف، ورفضت القوى الحريدية الغربية بإصرار المشاركة في أي حكومة شكلها حزب "العمل" أو "كاديما" الذي كان يمثل الوسط العلماني، قبل أن يندثر.
 وحرصت القوى الحريدية التي شاركت في الائتلافات الحاكمة أو أيدتها من الخارج على تضمين الاتفاقيات الائتلافية نصوصاً تؤكد على الالتزام بعدم الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة؛ من هنا فقد تحول التحالف بين القوى الحريدية الغربية وأحزاب يسار الوسط، والوسط ضرباً من المستحيل.
2- أظهرت المرجعيات الدينية الحريدية في العقدين الأخيرين ميلاً كبيراً للتدخل في القضايا السياسية المتعلقة بالصراع، وتمثل هذا الميل في إصدار العديد الفتاوى التي تحظر التنازل عن الأراضي العربية المحتلة بوصفها "جزء لا يتجزأ من أرض (إسرائيل). 
واللافت للنظر أن أتباع الحريدية الغربية أكثر تطرفاً حتى من المتدينين القوميين، ففي الوقت الذي يعلن فيه ثمانون بالمائة من المتدينين القوميين أنهم يتبنون المواقف اليمينية من الصراع، فإن مائة بالمائة من الحريديم يتبنون هذه المواقف.
3- هناك اتجاه متزايد لدى اتباع الحريدية الغربية للإسهام في المشروع الاستيطاني اليهودي في الضفة الغربية، الذي كان حكراً حتى مطلع التسعينيات من القرن الماضي على المتدينين القوميين. وتدل معطيات وزارة الإسكان الإسرائيلية على أن نسبة الحريديم من بين اليهود الذين ينتقلون للإقامة في مستوطنات الضفة الغربية تفوق نسبة الفئات الأخرى من اليهود. 
وتكفي الإشارة إلى أن ثلاث من المستوطنات اليهودية الموجودة في الضفة الغربية، والتي تحولت إلى مدن هي مستوطنات خاصة بالحريديم، وهي: عموانئيل في الشمال، وكريات سيفر في الغرب، ومعاليه أفرايم في الشرق.
4- يبدو بشكل واضح أن هناك دوراً متعاظماً لأتباع الحريدية الغربية في العمليات الإرهابية التي تشن ضد الفلسطينيين، في الضفة الغربية والقدس.
فجميع أتباع حركة "كاخ" اليهودية الإرهابية التي تطالب بطرد الفلسطينيين من بلادهم هم من الحريديم؛ علاوة على أن بعض العمليات الإرهابية التي أسفرت عن مقتل وإصابة فلسطينيين نفذها شباب من الحريديم.
فضلاً عن أن أتباع الحريدية الغربية يشكلون أغلبية المشاركين في المظاهرات المطالبة بالانتقام من الفلسطينيين في أعقاب تنفيذ المقاومة الفلسطينية عمليات ضد الأهداف الإسرائيلية. 
ومما لا شك فيه أن أفكار الحريدية الغربية قد أسهمت في بلورة النظرة اليهودية من الآخر، وتحديداً الفلسطيني، وذلك من خلال تعمد مرجعياتها تفسير نصوص العهد القديم بشكل يتناقض مع المعني الحرفي لـ "الآيات" الواردة في إصحاحات هذا العهد.
وتحرص المرجعيات الحريدية على تفسير ما جاء في "الوصايا العشر" على نحو مختلف تماماً. فعلى سبيل المثال فإن مرجعيات الحريدية الغربية تفسر الآية "بل تحب لقريبك ما تحب لنفسك"، على أنه يتوجب على اليهودي أن يحب جاره اليهودي فقط، وليس أي جار آخر.
كما أن الآية "لا تهمل أم جارك"، يفترض أنها تعني ألا يقف اليهودي لامبالياً عندما يتعرض جاره للخطر، لكن مرجعيات اليهودية الحريدية تفسر العبارة على أنها تعني ألا يتحرك اليهودي لإنقاذ حياة غير اليهود.
وقد استند الحاخام شلومو أفنير، أحد المرجعيات الدينية في (إسرائيل) إلى هذه الآية ليؤيد موقف أحد اليهود المتدينين عندما رفض تقديم يد العون لعجوز فلسطينية سقطت على الأرض عندما توقفت حافلة ركاب كانت متجهة من (تل أبيب) إلى حيفا بشكل مفاجئ، وقام بنهر يهودي آخر تحرك لمساعدة العجوز.
وفي تشرين ثان 1998 وقع معظم أعضاء "مجلس كبار علماء التوراة" التابع لإيجودات يسرائيل على عريضة مناهضة لتنفيذ الاتفاقية التي أبرمت بين السلطة الفلسطينية و(إسرائيل)، التي نصت على إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي في مدينة الخليل.
وتتشبث الحريدية الغربية بالمفاهيم العنصرية ضد الآخر غير اليهودي، حيث تحرم مرجعياتها زواج اليهود من غير اليهود وتعتبره سفاحاً لا نكاحاً، ويعتبر كل مولود يكون ثمرة هذا الزواج "ممزير"، ولا تشترط الحريدية أن يكون الزوجان مؤمنين بالديانة اليهودية ويكفي أنهما ولدا يهوديين، وهي تبيح الزواج من يهودي مرتد أو ملحد.

 

البث المباشر