كان حريا بالجماعة المؤمنة، التي أسست كيانها الجديد، بعيداً عن غطرسة العدو وسطوته، فحقَّقتِ الأمن الفردي والجماعي، ونظَّمت شؤون المجتمع الدينية، والاجتماعية، والاقتصادية، وأعلنت البرنامج السياسي، الذي ينظم العلاقات الداخلية والخارجية، كان لزاماً عليها، أن تنتقل إلى مرحلة جديدة في إدارة الصراع، مع العدو الذي أخرجها من ديارها وأموالها.
كانت السياسة الخارجية هي استيعابَ الأطراف كافة، وعدم فتح عداوات مع أحد، فليس من الحكمة زيادةُ الخصوم، وفتحُ عديد الجبهات في آنٍ واحد، وهو ما سيؤدي إلى تشتيت الجهود، وتفتيت القوة، والانصراف عن الهدف الرئيس، وهو العودة إلى الوطن، وتطهيره من الشرك، تحقيقاً للخلافة في الأرض.
ومن هنا بدأت السياسة الخارجية الجديدة مع قريش، وهي إرسال دوريات إسلامية، تستطلع بالقوة، وتشتبك مع المشركين إذا لزم الأمر.
وقد جهز النبي ﷺ منذ رمضان في السنة الأولى للهجرة، إلى رمضان من السنة الثانية ثمانيَ سرايا، وسأكتفي هنا بذكر الثلاثة الأولى؛ لأجل الفترة القياسية التي تمت فيها كما سنرى.
السرية الأولى:
السرية الأولى هي سريةَ حمزةَ بن عبد المطلب، على ساحل البحر الأحمر، فبعد أن علم رسول الله ﷺ أن هناك قافلةً قرشيةً محملةً بالأموال والبضائع، في طريق عودتها إلى مكة من الشام، يقودها أبو جهل بن هشام، ويحرسها حوالي ثلاثمائة راكب، جهَّز لها دورية قتالية، قوتها ثلاثون مجاهدًا من المهاجرين، يقودها حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وتحركت في شهر رمضانَ من السنة الهجرية الأولى، وعلى ساحل البحر الأحمر، التقت بالقافلة القرشية، في منطقة نفوذ قبيلة جُهينةَ، وقد نجحت المساعي السلمية لكبار قبيلة جهينة، في منع الاشتباك.
هزَّت هذه السرية كيان قريش، وبَثَّتِ الرعب في نفوس رجالها، وفتحت أعينهم على الخطر المحدق بهم، الذي يهدِّد طريق تجارتهم، أما المسلمون فكانت نتائجها عليهم إيجابيةَ؛ حيثُ تصاعدت الروح الحماسية بينهم، وأعطتهم ثقة عالية بالنفس، وجرأةً كبيرةً على عدوهم، فقد استطاعوا -ولأول مرة- الوقوفَ في وجه قريش.
السرية الثانية، والسهم الأول:
في شهر شوال من السنة الهجرية الأولى، كانت سرية عبيدة بن الحارث، وهي السريةَ الثانيةَ من حيثُ الترتيب، والأولى التي يقع فيها مواجهة عسكرية، كان قوام السرية ستين مهاجراً، ولم يكن فيها أحدٌ من الأنصار، ولما وصلت قوات التدخل الإسلامي إلى (رابغ)، التقت بقافلة المشركين التي خرجت لاعتراضها، فبدأ أول قتال في تاريخ الدعوة الإسلامية، واتخذ القتال طابع المناوشة بالسهام فقط، فكان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أولَ من رمى بسهمٍ في سبيل الله، في تلك المعركة التي لم تستمرَّ طويلاً؛ إذ قرر الفريقان الانسحاب، وكان بطل هذا الانسحاب الناجح سعدَ بنَ أبي وقاص رضي الله عنه، الذي شَتَّتَ تركيز العدو، وأحبط استعداده لشنِّ أيِّ هجومٍ مضادٍّ، عبر وابل من السهام، والتي شَكَّلت ساتراً دفاعياً، ومهد ذلك لانسحاب سليم منظم للمسلمين، ومتوتر مرعوب للمشركين.
السرية الثالثة:
وفي ذي القعدة من العام نفسه عقد رسول الله ﷺ لسعد بن أبي وقاص لواءً أبيضَ، يحمله المقداد بن الأسود، فخرج في عشرين رجلاً يعترضون عِيراً لقريشٍ، وعهد إليه أَلَّا يجاوز (الخَرَّار) وهو واد أو ماء بالمدينة، فخرجوا مشاة يكمنون بالنهار، ويسيرون بالليل، حتى بلغوا الخرار صبيحة خمسٍ، فوجدوا العير قد سبقتهم بيوم.
أهداف المرحلة:
ثلاثُ سرايا في ثلاثة شهور متوالية، من العام الهجري الأول، كانت هذه هي الوسيلةَ النبويةَ؛ لتحقيق ثلاثة أهداف، وهي كالتالي:
• الهدف الأول: كانت الشهور الأولى التي قضاها المهاجرون في المدينة المنورة، صعبةً نفسياً، واجتماعياً، وصحياً، واقتصادياً، فكانت السياسة النبوية، في إرسال السرايا نحو مكة، خطوةً حكيمةً نجحت في رفع معنويات المهاجرين، وتطمين الرأي العام بأن قضية العودة موضع اهتمام للإمام وأولوية نبوية.
• الهدف الثاني: أراد النبي ﷺ لقريش أن تفهم من هذه السرايا أن الحرب بين الكفر والإيمان لم تَنتَهِ بإخراج المؤمنين من مكةَ المكرمة، وأن منهجية الصبر على الأذى في مكةَ قد تغيرت إلى سياسة مطاردة لقريش؛ حتى تُستردَّ الحقوق.
• أما الهدف الثالث فهو التطمين والتحذير: تطمين القبائل العربية المجاورة أن أهل المدينة ليسوا عصابةً، وأن المهاجرين ليسوا قُطَّاعَ طرق، فهذه السرايا لا تستهدف إلا قوافلَ قريش، أما التحذير فهو أيضاً للقبائل، التي يمكن أن تطمع في المدينة المنورة، فتظنَّ فيها الضعف، وهو ما يحبط أيَّ محاولة للإغارة عليها.
ولقد كانت انتفاضة الحجارة، وانتفاضة الأقصى، ضمنَ مرحلة المناوشة، وكذلك كان العمل الفدائي، في فترة الستينات والسبعينات، والفرق أن العمل الفدائي المسلح كان مناوشةً فرديةً، أبطالها مجموعة من المقاومين، أما الانتفاضتان فهما مناوشة جماعية، أبطالها المجتمع كلُّه، وقد مثَّلت صحوةُ المجتمع الديني ة والوطنية، تحدياً كبيراً للعدو، فكل منهما لم يعد قادراً على كسب هذه الجولة، في واحدة من مراحل الصراع المهمة، التي تميزت بوعيٍ راقٍ، وكسرت هيبة الجيش الأقوى في المنطقة، أمام فتية آمنوا بربهم، فزادهم الله هدى، هدى بكيفية المواجهة، وهدى بالشخصية اليهودية الضعيفة، هداهم الله لمعرفة نقطة ضعف عدوهم، وهي ذاتها نقطة قوتنا؛ إنها الحياة، فهم أحرص الناس على حياةٍ في الدنيا، ونحن أحرص الناس على الحياة في الآخرة، وطريقنا إليها بأرواحٍ نقدمها من أجل دين الله.