تدخل "دولة" العدو الصهيوني عامها الـ72 من اغتصابها أرض فلسطين وإقامة كيانها بعد تهجير الشعب الفلسطيني. ومع مضي أكثر من 7 عقود، ما زالت "إسرائيل" تبحث وتعمل بكل جد كي تصبح "دولة طبيعية" في المحيط العربي، وخصوصاً مع الدول المجاورة لفلسطين المحتلة.
وعلى الرغم من توقيعه اتفاق سلام مع كل من النظامين المصري والأردني، إضافة إلى اتفاق المبادئ والتسوية مع حركة "فتح"، بصفتها أكبر فصيل في منظّمة التحرير الفلسطينية، فإن الكيان الصهيوني ما فتئ يبحث عن التطبيع المفقود.
يمتلك العدو الصهيوني القوة العسكرية الأولى في المنطقة العربية، وقد نجح بفضلها في توسيع كيانه، وبناء علاقاته مع الدول الغربية، وهزيمة الجيوش العربية، والسيطرة على أراضٍ خارج حدود فلسطين الانتدابية، كاحتلال سيناء والجولان وجنوب لبنان، ما آلَ إلى خلق حالة كيّ وعي في عقول الأنظمة العربية الرسمية، وهو ما دفعها إلى البحث عن السلام مع الكيان، تجنباً لمزيد من الهزائم، في ظل رغبة صهيونية عالية في إقامة السلام المنشود مع العرب.
لقد شكَّلت حرب 67 وهزيمة العرب فيها بوابة كبيرة للعدو الصهيوني لترسيخ نفسه كـ"دولة" قوية في منطقة تحظى بالاهتمام الدولي الكبير، مع تزايد اكتشاف ثروة البترول في منطقة الخليج العربي، ما منحه آفاقاً لتعزيز علاقته على صعيد الدول الغربية، علاوة على الدعم الأميركي غير المحدود له، والذي مكّنه من تعزيز نفسه وتطوير قدراته على كل الأصعدة العسكرية والسياسية والاقتصادية، وإن كان ما زال يعتمد على الدعم الخارجي من الولايات المتحدة الأمريكية بصورة أساسية.
ولكن القوة العسكرية لـ"إسرائيل" - بما فيها سلاحها النووي بعد إنشاء مفاعل "ديمونا" - وعلاقاتها الدبلوماسية مع الدول الغربية، لا يحقق لها ما تبحث عنه من حاجة تطبيعية مع العالم العربي، باعتبارها "دولة" طبيعية مستقلة، كما أن الاتفاقيات السياسية التي عقدتها مع العرب لم تفلح في تغيير النظرة الشعبية العربية إليها كعدو غريب عن البيئة العربية، قائم على طرد الشعب الفلسطيني وتهجيره.
أمام مواصلة العدو الإسرائيلي جهده المكثف في إحداث اختراقات في الجبهة المعادية له، فإن هذا السعي يقودنا إلى التساؤل: لماذا تبحث "إسرائيل" عن التطبيع في المنطقة العربية، على الرغم مما يشهده العالم العربي من حالة ضعف، في ظل تراجع المشروع القومي العربي، وضعف بنية النظام العربي الرسمي مع انتشار الصراعات الداخلية؟
ثمة اعتبارات متعددة بالنسبة إلى العدو الإسرائيلي تدفعه إلى البحث الدائم عن التطبيع، فـ"إسرائيل"، منذ اغتصابها فلسطين، تعيش حالة من عدم الاستقرار والصراع المتواصل، حيث تعتبر "الدولة" الأكثر خطراً على يهود العالم، نتيجة ما تختلقه من صراع متواصل مع الفلسطينيين أو المحيط العربي منذ العام 1948، وهو ما يهدد بقاءها كـ"دولة" مستقرة، كما أنها ما زالت تشعر بفقدان الشرعية العربية، وتعيش حالة من العزلة والمقاطعة. لذا، فالتطبيع استراتيجية إسرائيلية لتحقيق شرعية مفقودة.
مؤسس "الدولة" الصهيونية ورئيس أول حكومة لها، بن غوريون، قال إن هدف "إسرائيل" هو "إقامة السلام مع جميع الدول المجاورة، حتى نكون شعوباً مستقلة"، فبكل تأكيد، إن "إسرائيل" تهدف إلى السلام، وفق مفهوم الانصياع العربي لمفهوم الأمن الإسرائيلي، كما أنها تدرك أن الشرعية لا تُكتسب بمجرد الاعتراف بها كدولة من قبل الأنظمة العربية، فشمعون بيريز، صاحب كتاب "الشرق الأوسط الجديد" ومُنظِّر التطبيع الإسرائيلي، يقول "إن الخلاص لا يأتي من تسويات سياسية فارغة."
من هنا، يرى العدو الصهيوني أن الشرعية تأتي بتسليم الشعوب العربية بشرعية وجوده ككيان غير محتل للأرض العربية، ويولي أهمية قصوى للتطبيع مع الشعوب العربية، وجميع الاتفاقيات الموقّعة مع العرب تتضمن ضرورة التعاون الاقتصادي والثقافي وتعزيز مفهوم الأمن المشترك، وهو يسعى إلى بناء مصالح وكيانات في العالم العربي ترتبط مصالحها بالتعاون مع "إسرائيل"، بهدف خلق واقع لا يهتز بأي انتكاسة سياسية في المنطقة العربية.
كما يعتبر المدخل الاقتصادي جزءاً مهماً من الاستراتيجية الإسرائيلية للتطبيع، فالتطبيع الاقتصادي سيمنح "إسرائيل" شرعية قوية، ويخلق حالة من المصالح المشتركة مع قطاعات واسعة، ويفتح لها أبواب الأسواق العربية لتسويق منتجاتها، والاستفادة من الموارد الطبيعية للدول العربية، فالسوق العربية قد تمنح العدو الإسرائيلي مداخيل مالية تساهم في تقليل اعتمادها على الدعم الخارجي، وتحقق لها استقراراً في حال غيَّرت القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، استراتيجياتها نحو المنطقة العربية، وهي أحد دوافع الصهيونية نحو التطبيع مع العرب.
ربما يكون العدوّ قد نجح في تحقيق الخطوة الأولى من توقيع اتفاقيات سلام مع بعض العرب والسعي المتواصل لتعزيز علاقاته مع النظام الخليجي، عبر خلق عدو مشترك متمثل في الجمهورية الإسلامية الإيرانية وقوى المقاومة في فلسطين وخارجها، إلا أنه لم ينجح حتى اللحظة في تحقيق الاستقرار والأمن لكيانه، ولا سيما مع تطوّر المقاومة، كما أن مخططاته الإعلامية باستهداف الشعوب الخليجية المتواصلة منذ سنوات لم تنجح في نشوء بيئة عربية خليجيّة مساندة له.