كان بطل هذه المرحلة هو أبا بصير، ومن لحق به من المستضعفين بمكة المكرمة، أمثالَ أبي جندل بن سهيل بن عمرو، وغيرهَ من المؤمنين، الذين فَرَّوا إلى الله بدينهم، وقَرَّروا نصرة الإسلام بما يستطيعون، فشكلوا قوة ضاربة للحق، تحارب الباطل وأهله، وترفع راية التوحيد في أرض جديدة رغم أنف قريش، أرضاً يعلو فيها سلطان الإسلام، ويذلُّ على حدودها من حادَّ الله ورسوله.
كانت أول قاعدة عسكرية خارج حدود المدينة، تنفذ سياسة المدينة بالكامل، غير أنها تعمل دون ارتباط تنظيمي بها، فلها الحرية الكاملة في العمل وفق ظروف الميدان، ولذلك تمَّ تسليحها ذاتياً، دون أن تكلف المدينة درهماً واحداً، وقد تمثَّل دور القاعدة العسكرية الإسلامية في ثلاث مهام، وهي: رصد تحركات العدو، وتأمين حدود الدولة المسلمة، والإغارة على قوافل قريش، فاستطاعت بذلك تأمين نفقاتها، وسلب حالة الأمن من قريش.
كانت هذه المرحلة إيذاناً صريحاً بزوال الباطل، فهذه قريش بجبروتها، لا تستطيع حماية قوافلها، فيقع شبابها وقادتها بين قتيل وجريح، وتصادر أموالها، في حرب عصابات، تنفذها قوة الردع الإسلامية، فأرسلت قريش لرسول الله ﷺ، تناشده بالله والرحم لَمَا أرسل إلى أبي بصير ومن معه، ومن أتاه منهم فهو آمن، وتَخَلَّوا في ذلك عن أقسى شروطهم، فذلت قريش من حيثُ طلبتِ العز.
إنَّ حرب العصابات هذه لم تغيَّر من أخلاق أصحابها، فلما مرَّ بهم أبو العاص بن الربيع صِهرُ رسول الله ﷺ، قادمًا من الشام في نفرٍ من قريش معهم تجارة لهم، وسيطروا على القافلة، وأسروا رجالها لم يقتلوا منهم أحدًا؛ إكرامًا لِصِهرِ أبي العاص من رسول الله ﷺ، وأطلقوا سراح أبي العاص، فقدم المدينة على امرأته زينب رضي الله عنها، فكلَّمها أبو العاص في أصحابه الذين أُسِروا، فأجارته زينب، فلما علم رسول الله ﷺ بذلك خطب الناس، حيثُ وضَّح لهم مكانة أبي العاص منه، وذكر لهم ما أصابه وأصحابه، وأن زوجه زينب قد أجارته، "فهل أنتم مجيرون أبا العاص وأصحابه"، فقال الناس: نعم، فلما بلغ أبا جندل وأصحابه قول رسول الله ﷺ، في أبي العاص وأصحابه؛ ردَّ إليهم كلَّ شيءٍ أخذ منهم حتى العقال؛ امتثالا لرغبة رسول الله.
أهداف المرحلة:
لم يكن المغنم هو الغايةَ التي تسعى إليها هذه الثلة المؤمنة، وإنما رفض الفتنة في الدين، فكان هدفها هو إسنادَ الدولة بأعمال تضعف اقتصاد مكة، وتزعزع إحساسها بالأمن في وقت الصلح.
وقد تحقق هذا الهدف من خلال أرض جديدة كسبتها الدعوة، واتخذت منها قاعدة لمباغتة قوافل قريش، وأرى -والله تعالى أعلم- أن ذلك متحقق للمجاهدين في قطاع غزة، في أي معركةٍ مقبلةٍ مع الاحتلال الإسرائيلي -مع أني ككل مسلم لا نتمنى لقاء العدو-.
أحسب أن المجاهدين سيوفقون لكسب أرض جديدة، وذلك إما بتفعيل الجهاد من أرض يوجد فيها أبناء الدعوة؛ لإضعاف قوة العدو، وزعزعة أمنه، أو تحرير أرض حول قطاع غزة، بتقدم المجاهدين واحكام السيطرة على مستوطنات ومواقع عسكرية.
وعليه؛ فإننا رغم كل الشدائد، والتربص بنا من العدو وأعوانه، نعيش في المرحلة السادسة من مراحل النصر، ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف:21).