قائد الطوفان قائد الطوفان

الانفكاك الاقتصادي الفلسطيني عن إسرائيل: نظرة معمقة في الإمكان الاقتصادي والقانوني

الكاتب محمد الأسدي وحسان عمران

مؤخرا، عادت إلى الواجهة القضية القديمة الجديدة، وهي مقاطعة الفلسطينيين، قبل غيرهم، للمنتجات الإسرائيلية. في مطلع العام 2020، أصدرت الحكومة الفلسطينية قرارًا بمنع استيراد بعض المنتوجات الزراعية الإسرائيلية، وذلك ردًا على قرار وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك نيفتالي بينيت، بمنع تصدير بعض المنتوجات الفلسطينية إلى الخارج، عدا عن وقف استيرادها محليًا. أعادت هذه القضية إلى الأذهان، الحملات التي جرت في عام 2015، حينما احتجزت “إسرائيل” أموال المقاصة احتجاجاً على تحركات فلسطينية للانضمام لاتفاقيات دولية، وفي عام 2018 حينما هددت باقتطاع رواتب أسر الشهداء منها، وردّ السلطة عليها برفض استلام أموال المقاصة إلا كاملة دون أي اقتطاع.

كما أعادت هذه القضية النقاش القديم حول سبب نجاح حملة المقاطعة في الخارج فقط، دون تحقيقها لنجاح مماثل في الداخل الفلسطيني، فمنتجات شركات إسرائيلية، مثل شركة تنوفا على سبيل المثال، ما تزال تغزو الأسواق الفلسطينية، رغم وجود بديل محلي لها، كشركات الجنيدي والجبريني.

تناقش هذه الورقة مسألة مقاطعة الفلسطينيين للمنتجات الإسرائيلية، بما فيها منتجات المستوطنات، من الزاويتين القانونية والاقتصادية. تدرس الورقة مدى إمكانية إبطال الإطار القانوني الناظم للعلاقة الاقتصادية مع الاحتلال، والموقف القانوني الدولي من هكذا حملات وقرارات فلسطينية في ضوء الاتفاقيات المتبادلة، عدا عن الأطر القانونية الأخرى. في الجانب الاقتصادي، تناقش الورقة الجدوى والإمكانية الاقتصادية لمثل هذه الحملات، في ظل أن الاقتصاد الفلسطيني ليس مستقلًا بذاته، وإنما تابع للاقتصاد الإسرائيلي بشكل أو بآخر، لا سيما وأن العملة المتداولة في السوق الفلسطيني، هي الشيكل الإسرائيلي.

لمحة عن ممارسة المقاطعة الاقتصادية في السياق الدولي

يُمكن تعريف المقاطعة على أنها فعل إرادي وطوعي، للامتناع عن التعامل مع جهة ما على مختلف الصعد، ومن طرف واحد. وتهدف المقاطعة إلى إحداث ضرر اقتصادي بالجهة المقاطَعة من أجل التاثير على سلوكها. وقد تم اللجوء إلى المقاطعة في العديد من الحالات محليًا ودوليًا، مثل حملة المقاطعات التي تبعت حركة الحقوق المدنية للسود في الولايات المتحدة، في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وقبلها المقاطعة اليهودية للمنتجات النازية في أوروبا في ثلاثينيات القرن الماضي. ففي المثال الأول، انطلقت الدعوات لمقاطعة شبكة الحافلات في مدينة مونتغومري في ولاية ألاباما الأمريكية، وذلك إثر طلب سيدة بيضاء من السيدة “روزا باركس” ذات الأصول الإفريقية، أن تقوم من مقعدها في الحافلة لتجلس مكانها لكونها بيضاء، وكان هذا منصوصًا عليه في القانون، إلا أن السيدة باركس رفضت. وكانت هذه الحادثة شراراةً لبدء حملة مقاطعة، امتدت في أرجاء المدينة لتشمل 40 ألف راكب من أصول إفريقية، لتتسع فيما بعد وتؤجج انطلاقة حركة الحقوق المدنية، والتي أسفرت عن حملات مقاطعة أخرى، شملت شركات تمارس العنصرية ضد ذوي الأصول الإفريقية، وصولًا إلى الاعتراف الرسمي بحقوق الأمريكيين من أصول إفريقية، بشكل متساو مع البيض وغيرهم.

أما على الصعيد الدولي، فكان مثال جنوب إفريقيا هو الأبرز في القرن المنصرم. فمنذ أواخر الخمسينيات، انطلقت عدة حملات، أشهرها حركة مناهضة الأبارتهايد في بريطانيا، التي هدفت إلى مقاطعة النظام العنصري الذي كان يدير جنوب إفريقيا آنذاك. واستطاعت هذه الحملات الانتقال إلى المستوى الدولي في الستينيات، حين قامت الجمعية العامّة للأمم المتحدة بتمرير القرار رقم (1761) عام 1962، والذي أسس لجنة مناهضة الأبارتهايد. واستمرت الحملات بالتوسع في الحجم والمطالب، حتى انضمت لها الولايات المتحدة الأمريكية في منتصف الثمانينيات، بسحبها لاستثماراتها في جنوب افريقيا.[1] وانتهت هذه الحملات مع وصول الراحل نيلسون مانديلا للحكم، وإنهاء نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.

وفي وقتنا الحالي، تعتبر حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، أبرز أمثلة حملات المقاطعة واسعة الانتشار، حيث انطلقت الحملة بإعلان مئات مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني عن البدْء بمقاطعة “إسرائيل”، والدعوة إلى المشاركة في المقاطعة على جميع الأصعدة، دبلوماسيًا واقتصاديًا وعسكريًا وأكاديميًا وثقافيًا. وسرعان ما انتشرت الحملة في أوروبا وأمريكا الشمالية بشكل ملفت للنظر، مما جعل “إسرائيل” تدقّ ناقوس الخطر، وتصنّف حملة المقاطعة كخطر أساسي تتعرض له. وقد حققت الحملة نجاحات متفاوتة في عدة مجالات. فعلى الصعيد الاقتصادي، تسببت الحملة بمقاطعة عدد من المجالس والشركات العالمية، للبضائع والشركات الإسرائيلية، وبضغوط كبيرة على الشركات التي تتعامل مع الاحتلال. وقدّر مركز راند -أحد أكبر خزانات التفكير الأمريكية- عام 2015، أنه إن استمرت حملة المقاطعة لعشر سنوات قادمة، فإنها سوف تتسبب بخسارة الاقتصاد الإسرائيلي لـ 47 مليار دولار أمريكي. ولكن البعض قلل من أهمية ذلك، على اعتبار أن الناتج المحلي الإجمالي لـ “إسرائيل” عام 2019، بلغ حوالي 390 مليار دولار، وأن أي خسارات، وإن كانت كبيرة، إلا أنها لا تشكل تهديدًا خطيرًا على “إسرائيل”. إلا أن مقاربة ما يجري مع حملة المقاطعة الجنوب إفريقية، أو حملة المقاطعة التي رافقت حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، تشير إلى أن هذه الحملات تتوسع مثل كرة الثلج المتدحرجة.

ولعل الأهمية الاستراتيجية لهذه الحملة وما يرافقها، هي الأثر الإعلامي لها، وإحداث هزّة في وعي الشعوب حول حقيقة المشروع الاستعماري والاحتلال الإسرائيلي ونظام الأبارتايد المفروض على الفلسطينيين. فقد نجحت “إسرائيل” سابقا في تسويق روايتها المحرفة عن الصراع إلى العالم الغربي، لكن حملة المقاطعة اليوم تُحدث هزاتٍ متكررة في وعي الشعوب الغربية، وتجعل من شرعية المشروع الاستعماري و”إسرائيل” على المحك. ويُعتبر هذا العامل، المحرك الأساسي لاستمرار الحملة وتوسعها مستقبلًا، لتحدث أثرًا على الصعيد الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري، كما كان الحال في جنوب إفريقيا.

وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى تصريح بيرني ساندرز، المرشح الرئاسي الأمريكي السابق، حينما وعد بفرض عقوبات اقتصادية على “إسرائيل”، وإيقاف كافة المساعدات العسكرية التي تقدمها الولايات المتحدة لها، طالما استمرت في انتهاكها للقانون الدولي.

 ورغم أن المقاطعة هي جزء من ممارسة حق التعبير عن الرأي، المكفول دستوريًا في مختلف دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا الشمالية، إلا أن هذه الحملات تواجه محاولات للاعتداء على هذا الحق، بفعل ضغط اللوبيات الإسرائيلية في تلك الدول، مثل قرار البرلمان الألماني (البوندستاغ)، بربط حملة مقاطعة “إسرائيل” بمعاداة السامية. لكن هذا الأمر لا يغير من فكرة أن المقاطعة، وهي فعل طوعي وسلمي، مكفولة دستوريًا في أغلب دساتير العالم، ومنها القانون الأساسي الإسرائيلي، شأنها شأن مختلف الأساليب السلمية في التعبير عن الرأي. ولعل قرار المحكمة العليا البريطانية المتعلق بإبطال منع نشاطات حملة المقاطعة، يشير إلى عدم دستورية تلك المحاولات الرامية لنزع الشرعية عنه. أما النجاح الأكبر والأهم بهذا الخصوص فكان قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان مؤخراً (11 يونيو 2020)، والذي أدان فرنسا بانتهاك حرية التعبير عندما قامت بمحاكمة ناشطين مؤيدين لفلسطين عام 2013 بسبب دعوتهم إلى مقاطعة منتجات مستوردة من إسرائيل، حيث اعتبرت فرنسا حينها أن هذا الفعل الذي قام به النشطاء يمثل نوعا من التمييز، لكن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، والتي يعد حكمها ملزما لكل دول الاتحاد الأوروبي، رأت بأن فعل المقاطعة والدعوة لها “يندرج في إطار التعبير السياسي والكفاحي ويتعلق بمسألة مرتبطة بالمصلحة العامة”، وأبطلت بالتالي الإدانة الفرنسية للنشطاء، وأكدت شرعية حملات المقاطعة لإسرائيل.

الأطر القانونية الناظمة للعلاقات الاقتصادية بين السلطة الفلسطينية و”إسرائيل”

مع توقيع تفاهمات أوسلو بين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية عام 1993، تم التوصل إلى عدد من التفاهمات حول العلاقات الاقتصادية، تبلورت في العام 1994 في ما عُرف باتفاقية باريس، أو بروتوكول باريس حول العلاقات الاقتصادية، والذي كان ملحقا لاتفاق غزة أريحا. في الأساس، كان من المفترض أن تغطي فترة البروتوكول، الفترة الانتقالية التي مدتها 5 سنوات كما تم الاتفاق بين الطرفين، ولكن مع التعثر المتكرر لعملية السلام، استمر البروتوكول في تنسيق العلاقة الاقتصادية.

كان من أبرز تبعات البروتوكول، تبعية الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي، من خلال اتحاد جمركي[2] تشرف عليه “إسرائيل”، وبالتالي يبقى الاقتصاد الفلسطيني تابعًا للإسرائيلي في تعاملاته مع الخارج، دون سيادة ذاتية تخوله تنظيم علاقاته الاقتصادية بمفرده. وكانت المجالات الست الرئيسة التي نظمها البروتوكول: الجمارك، والضرائب، والعمالة، والزراعة، والصناعة، والسياحة. كما تم الاتفاق على أن يكون الشيكل الإسرائيلي، هو العملة المتداولة في المناطق الفلسطينية. أما بشأن النظام الضريبي والجمركي، فقد أقر البروتوكول النظام الذي كان ساريًا إبان فترة الحكم العسكري الإسرائيلي للضفة والقطاع قبل تأسيس السلطة، أو ما كان يسمى بـ “الإدارة المدنية الإسرائيلية”، مع بعض التعديلات، منها أن “إسرائيل” ستستمر في جمع الجمارك، ولكن ريعها سيعود للفلسطينيين، لا للخزينة الإسرائيلية كما كان عليه الحال، وبعدها تقوم السلطة بجمع الضرائب. وفيما يتعلق بضريبة القيمة المضافة، فإن على الفلسطينيين أن يلتزموا بالنسبة التي تفرضها “إسرائيل”.

مدى قدرة الاقتصاد الفلسطيني على المقاطعة والانفكاك من إسرائيل

دأبت سلطات الاحتلال الإسرائيلي منذ احتلالها لباقي فلسطين عام 1967، على اتباع سياسة تُفضي إلى إخضاع العلاقات الاقتصادية السائدة في الضفة الغربية وقطاع غزة، للاقتصاد الإسرائيلي، بحيث يسهل عليها استخدام ورقة الاقتصاد كوسيلة لإخضاع الفلسطينيين، إلى جانب الوسائل العسكرية والأمنية والسياسية. ومنذ توقيع بروتوكول باريس، نجح الاحتلال في تحوير غرض البروتوكول من اتفاق ناظم للعلاقات الاقتصادية لفترة انتقالية، إلى بروتوكول مشرعن لسياسات تسلط اقتصادي مارسها على الفلسطينيين على مدى عقدين، بعد انتهاء العمر الافتراضي للاتفاق.

إضافة إلى ذلك، تعدى البروتوكول مهمة تنظيم العلاقات الاقتصادية بين الأراضي الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي إلى فرض شكل العلاقات الاقتصادية السائد داخل الأراضي الفلسطينية. فقد غطى البروتوكول الكثير من الجوانب المتعلقة بالسياسات الاقتصادية والتجارية، والضرائب، وسياسات الاستيراد، والبنوك والتأمين، والزراعة والمياه، والطاقة والبترول. وعلى الرغم من أن الاتفاق أقر ببعض الحقوق الاقتصادية الأساسية للفلسطينيين، كفرض الضرائب المباشرة، والتبادل التجاري مع الخارج، وإنشاء سلطة النقد، إلا أنه فرضَ قيودًا مشددة على إدارة الاقتصاد الفلسطيني داخليًا، وبشكل خاص فيما يتعلق بمعدلات الضرائب وتحصيلها، والجمارك، والعملة المحلية، والسيطرة على مناطق العبور، والموارد الطبيعية. إضافة إلى ذلك، ومنذ قيام الاحتلال بتعطيل أعمال اللجنة المشتركة عام 2000، والتي كان يفترض أن تعالج العوائق والانحرافات في تطبيق البروتوكول، كرّس بذلك التحكم الأحادي الجانب بالعلاقات الاقتصادية بين الطرفين. ونتيجة لذلك، فشل البروتوكول في تحسين الأوضاع الاقتصادية في الأراضي الفلسطينية، بل وعزز من التبعية الفلسطينية للاقتصاد الإسرائيلي، ومن التسلط الاقتصادي للاحتلال.

وقبل مناقشة مدى قدرة الاقتصاد الفلسطيني على الانعتاق من قيد التبعية للاقتصاد الإسرائيلي، لا بد من عرض أبرز مظاهر هذه التبعية، والتي تمثل معاناة يومية للفلسطينيين، تُضاف إلى معاناتهم من الاحتلال نفسه.

  • في الضرائب: فرض بروتوكول باريس الاقتصادي على السلطة الوطنية الفلسطينية، مجموعة من القيود والترتيبات فيما يخص نسب وتحصيل الضرائب، وخاصة الضرائب غير المباشرة[3]، والتي تفوق نسبتها 80% من إجمالي إيرادات السلطة. فطبقا للبروتوكول، تقوم سلطات الاحتلال الإسرائيلي، ونيابة عن السلطة الوطنية الفلسطينية، بجباية الضرائب المفروضة على الاستيراد، وضريبة القيمة المضافة، وضريبة الشراء، إضافة إلى ضريبة الدخل المفروضة على العاملين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948 والمستوطنات الإسرائيلية، ثم تقوم بتحويل هذه الضرائب وفق آلية المقاصة. وتعد آلية فرض وتحصيل الضرائب هذه، من أبرز نقاط ضعف البروتوكول، والتي يوظفها الاحتلال في إخضاع الاقتصاد الفلسطيني، واستغلال موارده الذاتية. فمن جهة، سمح البروتوكول للسلطة الفلسطينية بهامش ضيق فقط في فرض معدلات ضريبية مستقلة تتناسب مع درجة تطور الاقتصاد، بينما ربط أهم هذه المعدلات بتلك المفروضة في الاقتصاد الإسرائيلي، حيث يظهر هذا جليًا في ضريبة الاستيراد وضريبة القيمة المضافة. ومن جهة ثانية، تسمح هذه الآلية بتسرب جزء كبير من الضرائب الفلسطينية إلى السلطات الإسرائيلية عبر عدة طرق، لعل أبرزها إدخال البضائع المستوردة من الخارج إلى المناطق الفلسطينية، على أنها بضائع إسرائيلية المنشأ، وبالتالي عدم استحقاقها لضريبة الاستيراد، وكذلك إخفاء فواتير المقاصة الخاصة بضريبة القيمة المضافة عن السلطة الفلسطينية. وقد قدّر مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، قيمة الأموال المسربة إلى سلطة الاحتلال الإسرائيلي، والناجمة عن خلل آليات المقاصة والتهرب الجمركي، بأكثر من 474 مليون دولار أمريكي في عام 2015. يشكل هذا المبلغ حوالي 18% من إجمالي إيرادات السلطة، ويمثل 3.7% من الناتج المحلي الإجمالي للأراضي الفلسطينية لنفس العام.[4]
  • في التجارة الخارجية: على الرغم من تسويق بروتوكول باريس على أنه شكل من أشكال الاتحاد الجمركي، إلا أن الاحتلال عطل مشاركة الجانب الفلسطيني في تحديد شكل هذا الاتحاد، واستأثر بفرض التعرفة الجمركية الموحدة، والتي من المفترض أن تحدَّد باتفاق الطرفين، وجعلها مساوية للتعرفة الإسرائيلية في معظم السلع، مما رفع من تكلفة المنتجات الفلسطينية، وأفقدها القدرة على المنافسة، نتيجة الفجوة الكبيرة بين حجم وهيكلية الاقتصادين الفلسطيني والإسرائيلي. كما مارس الاحتلال السياسات التقييدية لعرقلة انسياب السلع والعمالة من وإلى الأراضي الفلسطينية، عبر الإغلاق والحصار المتكرر. إضافة إلى ذلك، وبدلا من السماح بحرية تنقل البضائع بين الضفة الغربية وقطاع غزة، عمد الاحتلال إلى الفصل الكامل بينهما، وفرض حصارًا كاملًا على قطاع غزة منذ عام 2007. أبقت السياسات الإسرائيلية المنتهجة في المجال التجاري درجة ارتباط عالية للتجارة الخارجية الفلسطينية بالاقتصاد الإسرائيلي. فحسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بلغت نسبة الواردات والصادرات الفلسطينية من دولة الاحتلال وإليها في عام 2018، حوالي 55.3% و 83.7% من إجمالي الواردات وإجمالي الصادرات على التوالي.
  • في العمالة: حرص الاحتلال على السماح لعدد مدروس من العمال الفلسطينيين بالعمل داخل الأراضي المحتلة منذ عام 1948، لهدفين رئيسين، الأول هو الاستفادة من انخفاض أجور العمال الفلسطينيين، وبالتالي تخفيض تكاليف المنتج الإسرائيلي، والثاني هو الإبقاء على التحكم بجزء مهم من العمالة الفلسطينية، لاستخدامه كأداة إضافية للتحكم في الاقتصاد الفلسطيني، وخاصة خلال الانتفاضات والهبات الشعبية. يقدر الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني عدد الفلسطينيين العاملين في مناطق الاحتلال في عام 2019، بحوالي 133 ألفًا[5]، يشكلون حوالي 18% من إجمالي العاملين في الضفة الغربية لنفس العام، وتُشكِّل دُخول هؤلاء ما يقارب 35% من دخول جميع العاملين بأجر. تعطي هذه النسبة المرتفعة مؤشرًا هامًا على مدى ارتباط القوة الشرائية في الأراضي الفلسطينية بالعمل في الأراضي المحتلة، وحجم الاختلالات التي من الممكن أن يسببها توقف تحويل هذه الدخول إلى الاقتصاد الفلسطيني.

الانفكاك الاقتصادي عن الاحتلال وأبعاده على الاقتصاد الفلسطيني

اتخذت السلطة الفلسطينية منذ أواخر عام 2019، سلسلة من الإجراءات على طريق الانفكاك عن الاقتصاد الإسرائيلي، كان أبرزها منع استيراد العجول والمواشي من المربين الإسرائيليين، ونقل ملف التحويلات الطبية من المستشفيات الإسرائيلية إلى المستشفيات الأردنية والمصرية، والتوقف عن استيراد المياه المعدنية والعصائر والخضار والفواكه الإسرائيلية. كما دخلت السلطة الفلسطينية في مشاورات مع عدد من الدول العربية، من بينها العراق[6]، لبحث إمكانية توريد مشتقات نفطية منها. في المقابل، ردت سلطات الاحتلال بوقف إدخال المنتجات الزراعية الفلسطينية إلى الأسواق الإسرائيلية[7]، ومنْع تصدير هذه المنتجات عبر الموانئ الإسرائيلية، وهو القرار الذي ما لبث الاحتلال أن تراجع عن تطبيقه بعد ضغوط دولية.

بالنظر إلى الخطوات المتخذة حتى الآن من قبل السلطة الفلسطينية، وإلى تلك المرتقبة على الأمد المتوسط، يبدو واضحًا أن الانفكاك المخطط يستهدف التبعية التجارية في المقام الأول، على أمل تحقيق استقلال اقتصادي كامل في المستقبل. يبرر هذا التوجه هامش المناورة، الضيق بطبيعة الحال، المتاح في مجال حرية اختيار الشركاء التجاريين بناء على بروتوكول باريس. وتبرز هنا ثلاث نقاط رئيسة لا بد من التوقف عندها:

  • للاحتلال الإسرائيلي تاريخ حافل في مجال القيود والعراقيل التجارية التي يمارسها بين الحين والآخر لكبح أي نمو محتمل للتجارة الفلسطينية يتجاوز الحد الذي يسمح به الاحتلال. من هذه الممارسات على سبيل المثال، حصر عمليات التخليص الجمركي بالمخلّصين الإسرائيليين، وما يستتبعه هذا من اضطرار التجار الفلسطينيين للاستيراد عبر التجار الإسرائيليين؛ لتفادي الإجراءات الإدارية المعقدة والتكاليف المرتفعة، مما يسمح بتسرب جزء هام من واردات الجمارك إلى الجانب الإسرائيلي. ومن تلك الممارسات أيضا، تهاون، إن لم يكن تواطؤ، الجانب الإسرائيلي في انتقال البضائع من السوق الإسرائيلي والمستوطنات إلى السوق الفلسطيني، دون سندات إثبات، مستغلين عدم وجود سيطرة فلسطينية حقيقية على المعابر. وقد قدّر مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية الصادر عام 2013 نسبة هذه البضائع بـ 30% من مجمل السلع التي تدخل السوق الفلسطينية. تسمح هذه الممارسة بوجود طيف واسع من المنتجات الإسرائيلية في السوق الفلسطينية بأسعار منافِسة، مقارنة مع السلع التي يمكن استيرادها من الخارج.
  • لا تبدو فكرة الانفكاك التجاري عن الاقتصاد الإسرائيلي واقعية إن لم يرافقها انفكاك اقتصادي كامل، وهذا الأخير غير ممكن في الظروف الحالية. إذ من الصعب تصور إمكانية الذهاب بعيدًا في تنويع الشركاء التجاريين، في الوقت الذي تمتنع فيه البنوك الإسرائيلية منذ سنوات عن تحويل فائض العملة من الشيكل الإسرائيلي لدى البنوك الفلسطينية إلى عملات أجنبية أخرى يمكن أن تخدم تنويع مصادر الواردات. بالمثل، تكبّل مخرجات بروتوكول باريس استخدام أدوات السياسة المالية في منح الحوافز الضريبية والجمركية، وفرض المعدلات الضريبية الملائمة لهيكلية التجارة الفلسطينية وتطورها. يُضاف إلى ذلك، أن السيطرة الفلسطينية المنقوصة على الحدود والموارد تجعل التحكم بتدفق السلع الرئيسة التي يحتاجها المنتجون الفلسطينيون بيد الاحتلال، كالطاقة والمياه والمحروقات، وهو الأمر الذي لا يبدو تغييره واردًا في الأمد المنظور.
  • تصطدم الإجراءات الفلسطينية المتَّبعة في مجال الانفكاك عن الاحتلال بضعف مرونة القاعدة الإنتاجية الفلسطينية المحلية، وعدم قدرتها على سد الفجوة الناجمة عن إيقاف استيراد المنتجات الإسرائيلية التي يتوفر بديلها من منتجات فلسطينية محلية، إذ لم تُحْسن السلطة الفلسطينية استغلال العديد من الفرص التي سنحت لها خلال الفترة الماضية لتنويع قاعدة الإنتاج الفلسطيني وتقويتها، عبر تقديم دعم حقيقي للمنتجين المحليين، وللمشاريع الصغيرة والمتوسطة. في المقابل، تم تخصيص مبالغ كبيرة من الموازنة السنوية لدعم الإنفاق الأمني والمصروفات الإدارية. أفرزت هذه السياسات اقتصادًا فلسطينيًا ضعيفًا، وغير قادر على مواجهة انفكاك اقتصادي محتمل.

في ظل ذلك، ما إمكانية تعديل بروتوكول باريس أو الانسحاب منه وفق القانون الدولي؟

منذ توقيعها، تعرضت اتفاقية باريس لانتقادات لاذعة، فلسطينية وغير فلسطينية؛ كونها منحازة بشكل صارخ لـ “إسرائيل”، وكونها تؤطر لمنظومة الهيمنة الإسرائيلية على الفلسطينيين، وتمنعهم من بناء الأسس اللازمة لهم من أجل ممارسة حقهم في تقرير المصير، وذلك في ظل تبعية الاقتصاد الفلسطيني للإسرائيلي بفعل اتفاقية باريس، حيث أن وارداته وصادراته ومقاصّتُه، تقع تحت السيطرة المباشرة أو غير المباشرة لـ “إسرائيل”، كما تبين.

بناء على هذا الأساس، هل بإمكان الفلسطينيين الانسحاب من اتفاقية باريس؟ للإجابة على هذا التساؤل، ينبغي استحضار بعض النصوص القانونية، التي تنظم العلاقة القانونية بين القوة القائمة بالاحتلال، وهي “إسرائيل”، وبين الشعب الخاضع للاحتلال، وهو الشعب لفلسطيني. تنص المادّة السابعة من اتفاقية جينيف الخاصة بحماية السكان المدنيين في حالة الحرب لعام 1949، على أنه بالإمكان التوصل لاتفاقيات خاصة بين قوة الاحتلال والسكان المحتلين، طالما لم تنتقص هذه الاتفاقيات من حقوق المدنيين. وتضيف المادة الثامنة، أنه ليس للأشخاص المحميين (أي الشعب المحتل)، أن يتنازلوا عن حقوقهم التي تكفلها الاتفاقية، سواء جزئيًا أو كليًا. وهكذا، وفي ضوء المادتين المذكورتين، فإن اتفاقية باريس، المفترض أن تكون مؤقتة لـخمس سنوات فقط، تنتقص من قدرة الفلسطينيين على ممارسة حقوقهم، ومنها حقهم في تقرير المصير وفي الإشراف على مواردهم الطبيعية.

وبالنظر للاتفاقية من منظار اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969، يتبين أن المادتين (53) و (64) من اتفاقية فيينا تنصّان بوضوح على أنه ليس للاتفاقية أن تنتهك “قاعدة آمرة” من قواعد القانون الدولي، سواء كانت سابقة على توقيع الاتفاق، أو لاحقة له. ومما لا شك فيه، أن سيطرة إسرائيل على موارد الفلسطينيين والتحكم بها يمثل انتهاكا لقواعد آمرة في القانون الدولي. كما أن المادة (60) من نفس الاتفاقية، تنص على حق أي طرف أن يتجه لإبطال الاتفاقية، في حال نقْض الطرف الآخر لها بشكل جوهري. وهنا نستذكر احتجاز “إسرائيل” لأموال المقاصّة أكثر من مرة، وقيامها منذ العام 2000 بتعطيل عمل اللجنة المؤقتة التابعة للاتفاقية، فضلا عن عدة انتهاكات أخرى، والتي تعني نقْضًا للاتفاقية بشكل صارخ من طرفها، بما يمنح السلطة إمكانية الانسحاب من الاتفاقية.

وتجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أن اتفاقية باريس مرتبطة باتفاق أوسلو الذي أُشْبع انتهاكًا، ومن أبرز مظاهر ذلك، القانون الذي تسعى الحكومة الإسرائيلية لتمريره في الكنيست، والذي يقضي بضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية للسيادة الإسرائيلية. وعليه، فإن هذا الأمر يقود إلى دليل آخر على إمكانية نقض الطرف الفلسطيني لاتفاقية باريس ذاتها، سواء عبر التحكيم أو الانسحاب. أما عن إجراء تعديلات على الاتفاقية، فإن هذا عمليًا يبدو من المستحيل، إذ أن أي تعديل على الاتفاقية يتطلّب موافقة الطرف الآخر، وهو “إسرائيل”، وهذا أمر لا يحتاج كثيرًا من النقاش للقول بأنه مستحيل، خصوصا في ظل هذا الوقت الذس تمارس فيه إسرائيل أشد أنواع الغطرسة.

أما فيما يتعلق بالمقاطعة الجزئية للبضائع الإسرائيلية، بعيدا عن فكرة الانسحاب من بروتوكول باريس ذاته، فهناك مستويان للنظر إلى هذه المسألة، هما المستوى الرسمي والشعبي.

على المستوى الرسمي، ألزمت اتفاقية باريس، والتي تم التسويق لها على أنها اتحاد جمركي هجين، الفلسطينيين بالتعامل مع المنتجات الإسرائيلية على أنها منتجات محلية، بحيث لا يمكن للسلطة فرض ضرائب إضافية عليها، وليس بإمكانها استثناء منتجات معينّة، أو مقاطعتها، دون الاتفاق مع الطرف الآخر. أما على المستوى الشعبي، فإن المقاطعة، والترويج لها، تمثل جزءا من حق التعبير المكفول دستوريًا لأي مواطن، وهو جزء من ممارسة الحق في تقرير المصير. وقد كان للمجتمع المدني الفلسطيني أثر كبير في هذا المجال، سواء عبر حملة المقاطعة (BDS)، أو الحملات المحلية الهادفة لإخلاء السوق الفلسطينية من المنتجات الإسرائيلية.

الخلاصة: بين تكبيل الواقع وأفق الانعتاق

ينبغي التأكيد على أن المقاطعة التي يمارسها الفلسطينيون وداعموهم، هي مطلب أساسي أخلاقي من أجل الضغط على “إسرائيل” كسلطة احتلال. لكن الحديث هنا يدور حول المقاطعة الرسمية، المتمثلة بالسلطة الفلسطينية، مع الأخذ بعين الاعتبار تبعات هكذا قرار، قانونيًا وسياسيًا واقتصاديًا، على الفلسطينيين.

قانونيًا، تدعم هذه الورقة الرأي القائل بأن للفلسطينيين الحق في الانسحاب من اتفاق باريس بصورة قانونية، وبالتالي الانفكاك عن “إسرائيل” اقتصاديًا. أما فيما يتعلق بالمقاطعة الجزئية لبعض المنتجات بقرار رسمي فلسطيني، فإنه -مع ثبات باقي العوامل بلغة الاقتصاديين (ceteris paribus)- يعتبر انتهاكًا لاتفاقية باريس، كونها اتفاقًا جمركيًا يمنع التمييز بين المنتجات الفلسطينية والإسرائيلية دون اتفاق مشترك. ولكن مما يتوجب الانتباه له، هو أن “إسرائيل”، منذ أن قامت عام 2000 بتعطيل عمل اللجنة المؤقتة التابعة للاتفاقية، و ارتكبت العديد من الانتهاكات ، مما يدعم الرأي القائل بإمكان الانسحاب من الاتفاقية بشكل كلي.

أما من وجهة نظر اقتصادية، فلا يبدو الانفكاك الاقتصادي الفلسطيني عن الاقتصاد الإسرائيلي، ولا حتى الانفكاك التجاري، ممكنًا في الوقت الحالي وفي ظل المشروع السياسي الراهن الذي تتبناه السلطة الفلسطينية. إذ يفتقد الاقتصاد الفلسطيني لأهم مقومات السيادة الاقتصادية، والمتمثلة بالقدرة على توظيف السياسات المالية، مثل فرض الضرائب وتحصيلها، ومنح الإعانات والتحويلات، والتحكم في عرض وطلب العملة الوطنية، لتحقيق الأهداف الاقتصادية المنشودة، من معدلات نمو وبطالة وتضخم وغيرها. ومن جهة أخرى، لا يمكن تحقيق السيادة الاقتصادية مع غياب مقومات دولة ذات سيادة، إذ ترتبط السيادة الاقتصادية بشكل أساسي، بقدرة الدولة على احتكار فرض الضرائب وتحصيلها، والتحكم الكامل في المعابر الحدودية ومسارات التجارة الداخلية، والسيطرة الكاملة على الموارد الطبيعية، والقدرة على استغلالها. وإنّ احداث تغييرات من هذا النوع، يطلب تغيرات بنيوية في السلطة الفلسطينية وفي العلاقة القائمة مع الاحتلال.

بكلمة أخرى، لا يبدو من الممكن تحقيق انفكاك اقتصادي فعلي عن الاقتصاد الإسرائيلي تحت بنود بروتوكول باريس. كذلك، لا يمكن تصور تحقيق استقلال اقتصادي حقيقي بشروط الاتفاق الأم، أوسلو. وعليه، يبدو مهما للسلطة الفلسطينية فيما تفكر بالانفكاك الاقتصادي عن الاحتلال، أن تدرس العودة خطوات إلى الوراء، أي إلى الحالة التي يكون فيها الشعب تحت الاحتلال المباشر، وتحميل إسرائيل المسؤولية الكاملة عن اقتصاد السكان، أو العمل على الانفكاك الكلي عن الاتفاقيات التي تكبلها في هذا السياق. ولعل خطوة الرئيس عباس الأخيرة بإعلان توجه السلطة للانسحاب من الاتفاقيات حال قامت إسرائيل بالمضي قدما في خطة الضم، يمثل حجر الأساس لذلك، متى أخذ بعدا عملياً.

البث المباشر