قائد الطوفان قائد الطوفان

مقال: عباس .. لا الرائد أنت ولا الدليل !!

د. محمد شهاب

خلال الأسبوع المنصرم تابعت - كغيري – بشغف ما قيل حول تأجيل تقرير جول دي ستون ، ولعل أكثر الناس قد أصابتهم الدهشة البالغة ، ليس لتأجيل القرار فحسب ؛ بل لتلك التبريرات الفاضحة التي دافع بها زعماء وقادة فلسطينيون اسماً: أمثال عباس وغيره، تلك التبريرات التي لا يقبلها عقل ولا يصدقها شريف ولا تنطلي على أحد ، وأنا أجزم بأن قائليها هم أكثر الناس معرفة بكذبهم ، ولا أجد لهم مثلاً إلا كما ذكر عن عمرو بن العاص - قبل أن يسلم – حين وفد على مسيلمة ، فجعل مسيلمة يؤلف أشعاراً وأخبره أنه نبي كمحمد ، فلاحظ عمرو بن العاص الفرق بين القرآن وكلام هذا الدجال فقال مقولته الشهيرة : يا مسيلمة والله إنك لتعلم أني أعلم أنك كذاب ، ومثلاً  آخر كما ذكر عن أشعب الذي كذب على الصبية فأشار لهم بوجود وليمة هناك ليتخلص منهم ، ثم صدق كذبته ولحق بهم ، فلما اكتشفوا كذبه طاردوه ثانية يرجمونه بحجارتهم.

لقد قالت العرب في الأمثال: "الرائد لا يكذب أهله" ، هكذا بلا توكيد !! ويا لها من حكمة بالغة تلخص تجارب الماضين وتودعها سجل الحياة الزاخرة ، وكما جاء في مجمع الأمثال : الرائد :" هو الذي يقدمونه ليرتاد لهم منزلاً أو ماءً أو موضع حرز يلجئون إليه من عدو يطلبهم , فإن كذبهم صار تدبيرهم على خلاف الصواب , وكانت فيه هلكتهم ، أي أنه وإن كان كذابا لا يكذب أهله , يضرب فيما يخاف غبَّ الكذب ".

إذاً هو المستطلع لأمر قومه ، وعلى خبره يكون قرارهم ويترتب مصيرهم , فما أعظمها من أمانة وما أخطرها من مهمة ، وإن كان العرب في جاهليتهم قد وصلوا إلى درك بعيد من الجهل والتخلف والظلم ؛ إلا أن حياتهم لم تخلُ من نفحات مكارم وأخلاق أقرها الإسلام وأحسن توجيهها حتى أشتهر بذلك أشخاص وقبائل وسار بذكرهم الركبان وجرت بهم الأمثال.

وهنا نجد أن العرب الأوائل الذين توقفت حياتهم على مصادر الماء والكلأ وغزا بعضهم بعضاً بسببه , نراهم يختارون لمهمة الريادة من يثقون به ، ليس فقط لعلمه وخبرته وشجاعته ؛ بل لصدقه وأخلاقه وأمانته , وقد كان المعهود ألا ُيقَّدم لمهمات الريادة والقيادة إلا من حاز على تلك الصفات , فالقائد دوماً في مقدمة قومه ، وهو يكاشفهم ويصارحهم ويشاركهم الرأي والمصير ، يصيبه ما أصابهم , ولا يُسلمهم لعدو ولا يلقيهم إلى مهلكة , ولا يفرُّ كما نري اليوم بطائرة أو يلجأ لسفارة أجنبية , ولقد جاءت صيغة المثل على وجه البداهة والحقيقة التي لا تقبل الشك أو النقص أو النقض , سواءً لمفهوم اللفظ أو مقتضي اللزوم , لم يكن أحدهم يتصور أن يكذب الرائد أهله – قومه وعشيرته - فهم واثقون من ولائه وحسن تقديره لعواقب الأمور وتغليبه للمصلحة العامة ، ويعلمون أنه قد يكذب ويخادع عدوه في قتال ، وربما تصوروا منه أن يكذب في أي أمرٍ إلاَّ في المهمة التي انتدبوه لها وأسلموه بها أمرهم ومصيرهم .

ومع الأيام امتد مفهوم الريادة إلى معاني القيادة ، واصطلح للفظ الرائد مرتبة قيادية خاصة , والعبرة بعموم المعنى " وكل راع مسئول عن رعيته " , وجاء الإسلام ليؤكد أنه ليس هناك منقصة ورذيلة كالكذاب ولا مكرمة وفضيلة كالصدق ؛ بل إن الصدق رأس كل فضيلة وإن الكذب رأس كل رذيلة ، قال صلى الله عليه وسلم " عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً , وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً " ، وكما قال إياس بن معاوية: (امتحنت خصال الرجال، فوجدت أشرفها: صدق اللسان) ، فما أخطر الكذب في حياة الناس وما أرذله من خليقة وما أسوأه من عاقبة !

وإن خطره وسوأته تزداد وتتضاعف حين يقع من الكبار والقادة والزعماء ، فكذبة الكبير كبيرة ، وكلٌّ يؤخذ بذنبه على قدره ، فيا ويل القادة الذين يخادعون شعوبهم ويفترون على الله الكذب وهم يعلمون، فيكذبون كما يتنفسون، ولا تكاد تعد لهم صدقاً ، وما أكثر هؤلاء في زعماء هذا الزمان، ترى الواحد يقال عنه كما جاء وصفه في الحديث الشريف: ما أظرفه ! ما أحكمه ! ما أعظمه! وهو عند الله لا يساوي جناح بعوضة ، فما أكثر ما يكذبون ، بل أشنع ما يفترون وتطير بكذبهم الآفاق فيَضلون ويُضلون وما أقلَّ ما يصدقون ، فإن عقوبة ذلك الرجل الذي يغدو من بيته فيكذب الكذبة ينصر بها هواه ، فتبلغ كذبته الآفاق ، كما رآه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم أحد الزبانية على جانبيه بكلوب من حديد يشرشر به شدقه ومنخره وعينه إلى قفاه .

وما أروع ما يقول زياد في خطبته البتراء: (إن كذبة المنبر بلقاء مشهورة ، فإذا تعلقتم عليَّ بكذبة فقد حلَّت لكم معصيتي ، فإذا سمعتموها فاغمزوها فيّ واعلموا أن عندي أمثالها).

وكم وقفت مشدوهاً وأنا أتأمل موقف أبي سفيان رضي الله عنه وجوابه لهرقل الروم وقد سأله عن محمد صلى الله عليه وسلم ، يوم أن كان زعيم المشركين في مكة ومن ألد أعدائه ، وكيف تمنعه المروءة أن تسجل عليه العرب أنه كذب كذبة واحدة في سجل حياته الطويل ، فتباً لقادة الإفك والزور والبهتان الذين لا يعرفون المروءة ، فلا نامت أعين الجبناء!!

ولو سألنا لماذا يكذبون ويخادعون؟ فالجواب واحد لا ثاني له: إنها الخيانة والخسة والرذيلة التي جبلوا عليها ، إنها الأنانية المفرطة والحرص على مصالحهم وكراسيهم الزائلة ، إنها محاولات التزيين والتجميل لباطلهم والإخفاء لجرائمهم ومظالمهم بحق الله وحق شعوبهم ؛ بل حق أنفسهم ، كأنهم قد حرموا على أنفسهم الصدق واستحلوا الكذب حتى أدمنوا عليه ، فهم يظهرون ما لا يبطنون ويسِّرون مالا يعلنون ، وينسى أولئك أن علام الغيوب ، الذي يعلم السرَّ وأخفى ، هو لهم ولكيدهم وإفسادهم بالمرصاد بعقاب عاجل قريب في هذه الدنيا عذاب الخزي وسوء الخاتمة والأخذ الشديد ، بل وتتابع اللعنات لهم بعد موتهم ، حين يستذكر الناس أفعالهم ، وتنشر الصحف فتفضح كل مستور بغيض وربما من أقرب المقربين لهم ، وعقاب الآجل بعيد في الآخرة ، وحينها " سيعلم الذين كفروا أيَّ منقلب ينقلبون " ، فأين من يعقل ويتدبر" . وصدق الله العظيم: ).. وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) المائدة41

 

 

البث المباشر