بابتسامة هادئة، يستقبل طبيب الغلابة الغزاوي "محمد أبو الكاس" الصغار داخل عيادته البسيطة، فرحلة مداواة المرضى تبدأ يوميا من العصر حتى آخر مريض يطرق بابه. هذه حاله منذ 44 عاما.
ورغم أن عيادته لا تشبه العيادات الأخرى إلا أن زبائنه طيلة الساعة يأتون من مناطق مختلفة، فهم يقولون أن "يده مبروكة" رغم أنه يعالج بأساليب حديثة وأدوية تناسب الصغار، لكن ما جعل شهرته واسعة هو تقديم العلاج والدواء غالبا بالمجان.
صيت طبيب الأطفال أبو الكاس انتشر منذ سنوات طويلة على مستوى قطاع غزة كونه عمل في مستشفى النصر للأطفال وكذلك مستوصف الصوراني، فالكثير من مرضاه كبروا وباتوا يحضرون أولادهم إلى عيادته، لكن صيته ذاع في الأيام الأخيرة حين شبهه مرتادو عيادته بـ "طبيب الغلابة" المصري محمد مشالي.
عبر ممر ضيق وصلت "الرسالة نت" إلى غرفة الطبيب ليحكي قصته التي يحفظها أبناء حي الشجاعية وكل من يعرفه، أوقفتنا صرخات صغير انشغل الطبيب بالكشف عن سبب ألمه فيما قاطعت لحظات الانتظار احدى السيدات قائلة: "هاد الدكتور أبو الغلابة بعالج ببلاش (..) ياما جبت أولادي اعالجهم عنده".
دقائق قليلة هدأ الصغير وغادر برفقة والدته، ثم سمح الطبيب بالدخول لمحاورته، بداية حديثه وصف عيادته بـ "مستودع الأسرار" فلكل مريض حكاية، ثم قال "يصفوني بطبيب الغلابة، أعرف محبة الناس لي (..) لكن هذا ليس بشطارتي بل بفضل من الله".
لم ينس الطبيب "أبو الكاس" محطات حياته قط، بل لا يزال يعمل بوصية والده الذي فرح بتخرجه من كلية الطب، ثم رحل بعدها بأربعين يوما، لكن قبل وفاته أوصاه بمداواة الفقراء بالمجان ومساعدتهم بالعلاج، وما حفزه على تنفيذ الوصية طيلة السنوات هي زوجته التي غادرت الدنيا قبل 7 شهور.
طبيب الغلابة الذي أتم الرابعة والسبعين من عمره، يحكي أنه ببداية عمله في المستشفى لم يكن يحصل على راتب يؤهله لمساعدة الفقراء بشكل كبير، لكن زوجته كانت موظفة، تدخل العيادة تتفقد الأدوية وما ينقص تشتريه ليعطيه للفقراء من المرضى الصغار، عدا عن أولاده الذين سافروا للعمل في الخارج ويرسلون له المال لشراء ما يحتاجه لمداواة الصغار.
ويصف أن عمل الخير والكشفية البسيطة التي يحصل عليها "باركت عمله وجلبت الرزق له"، مبينا أن الكثير من الأهالي يدفعون خمسة شواكل وعشرة أحيانا، لكن بعض منهم بعد الكشف عن الطفل المريض وعلاجه يشكر الطبيب ويقول "سامحني يا دكتور معيش أدفع".
وعن مواقف لاتزال عالقة في ذاكرة الطبيب أبو الكاس أنه قبل عشرين عاما جاءه زوجان يحملان صغيرتهما التي لم تتجاوز الخمس سنوات غائبة عن الوعي، قدم لها الإسعافات الأولية وأنعشها حتى أفاقت، ثم فرجت أسارير والديها حتى همت والدتها بتقديم خاتمها الذهبي رهنا لدى الطبيب حتى تتمكن من توفير رسوم الكشفية.
رفض الطبيب، وطالبها بمعرفة حكاية الخاتم، فأخبرته أنه هدية خطوبتها، حينئذ طلب منها أن تحتفظ به بشرط أن تحصل الطفلة على الهدية ذاتها من خطيبها حين تكبر، وبعد عشرين عاما كان له ذلك، ولاتزال الشابة تطرق عيادته بصحبة زوجها حين يمرض صغارهم.
وفي موقف اخر لايزال يذكره خاصة وأنه حمى بيتا من الطلاق، يروي الطبيب أبو الكاس، أن رجلا طلب من زوجته أن تحضر صغيرهما للعلاج كون الكشفية والعلاج بسعر رمزي، لكن الزوجة لم تمتثل لطلب زوجها وذهب لآخر لتدفع أكثر من مائة شيكل ومع ذلك بقي الطفل مريضا.
ويكمل الحكاية: "حين علم الزوج أن الأم لم تفعل ما طلبه، غضب وجاء بصحبتها لمعالجة الطفل وسرعان ما تحسن وتماثل للشفاء، بينما الأب ثار وكاد أن يطلق زوجته(..) بعدما تدخلت هدأ خاصة وأنني أعرف وضعه المادي فقمت بإعطاء الصغير المبلغ الذي خسرته الأم كهدية فقبلها الرجل ورحل".
قاطعت إحدى السيدات حديث الطبيب، فهي في عجالة من أمرها تريد معالجة حفيدها الذي يبكي من حرارته المرتفعة قالت " اتيت من منطقة الميناء (..) كل أولادنا وأحفادنا نعالجهم عند الدكتور محمد".
بعدما فرغ طبيب غلابة غزة من معالجة الصغير قال:" سأواصل رسالتي حتى اخر نفس لي".
أنهت "الرسالة" المقابلة مع الطبيب، وعلى باب عيادته كان أحفاده يلعبون حتى همس حفيده خالد "كلنا بنتخانق مين يصير دكتور ويمسك عيادة سيدي".