قبل يومين في دير البلح، وفي غرف الحجر المكتظة بالقصص، سُمع صوت البكاء في غرفة من تلك الغرف، أبناء وبنات السيدة (ع) علموا بأن أمهم التي حولت قبل يومين إلى قسم العناية المركزة في المستشفى الأوربي قد رحلت.
في اليوم التالي سمع صوت سيارة إسعاف قادمة، هي ذاتها السيارة التي حملت السيدة (ع) قبل أيام، إلى قسم العناية المركزة في مستشفى الأوروبي لسوء حالتها بعد أسبوعين من اصابتها وعائلتها بفايروس كورونا، قد عادت بها إلى ذات المكان، ووقفت من بعيد وخلف السياج ليلوح أبناء السيدة للجسد المسجى دون أي مراسم أخرى تناسب هذا الموت!
أسبوعان قضتهما السيدة الستينية في غرف الحجر ما بين أعراض بدأت خفيفة الى أن تأزمت ووصلت الى الرئة الضعيفة المصابة بالربو مسبقا.
الموت رحمة، الموت جزء من الحياة، لكن موت كورونا قاس، رحيل وحيد دون لمسة أب أو أم أو ابن، نوم ثم رحيل، حيث يبنج المريض كاملا قبل وضعه على جهاز التنفس الصناعي، فلا يكلم ابنه ولا يقبل جبين ابنته، ولا يمسك يديه قريب ليهون عليه ألم ما حدث.
"كان كابوسا، لكنه هذه المرة واقع، أمي في سيارة الإسعاف متوفاة على بعد مترين ونحن في غرفة الحجر نودعها من فوق السياج بعيدين إلى الدرجة التي لا نستطيع فيها احتضانها أو لمسها، أو حتى إلقاء نظرة أخيرة على وجهها، تقول ابنتها الموجودة بالحجر.
وعلى باب غرف الحجر جاءت سيارة اسعاف تحمل جثمان أم أخرى، أم الشاب المحجور محمود الرنتيسي مع عائلته، وداع مشابه، حيث وقف الطاقم الطبي عن بعد وتوسطهم محمود بكمامته، لا تظهر معالم وجهه جيدا، دموع الخد غطتها الكمامة، وكأن شيئا غلف كل طقوس الألم تغليفا. لا احتضان للجثة الممددة في سيارة الإسعاف، ولا قبلة على يدها، ولا حتى كلمة أخيرة قبل الرحيل، ولا حتى ظهورا واضحا على معالم المتواجدين في الصورة لأن وجوههم كلها باتت مغطاة.
صلاة الميت على بعد مترين من باب السيارة، الابن وأربعة من أفراد الطاقم الطبي، ثم يعود أدراجه ليكمل واجبه في غرفة الحجر، فلا يشارك في دفن أمه ولا الاطمئنان على وجودها في قبر، أو حتى رؤية مراسم الدفن من بعيد، كل ذلك تقوم به الطواقم الطبية بدقة كاملة ودون مشاركة أحد، خوفا من انتشار أكبر للوباء.
وتتوقع وزارة الصّحة الفلسطينيّة أنّ جسد المتوفى المصاب بـ"كورونا" قد يكون معديا، ويمكن أن تؤدي مخالطتُه إلى نقل الفيروس. وبناء على هذا فإن إجراءاتها الوقائية تكون أكثر تشددا وصرامة في عملية نقل الموتى بدءاً من إعلان وفاته إلى الوداع وحضور عائلته لمراسم الدفن، وكل تلك الإجراءات استنادا إلى فتوى شرعية صادرة من مفتي القدس مع حالات الوفاة بهذا الوباء.