قائمة الموقع

على الرصيف تنجو كرامة "أبو العز" بكرتونة تمر من الأغوار!

2020-09-23T11:43:00+03:00
أبو العز
الرسالة نت - أمل حبيب

لم يكن سهلًا أن يوقف أهل جنين حزن مئذنة قريتهم اليامون التي اعتادت على صوت شيخها أبو العز وهو ينادي الناس للصلاة والفلاح، بعد غيابه عنها قسرًا عشر سنوات!

توزع الصبر في تلك السنين بالتساوي على جدران 17 معتقلًا إسرائيليًا تنقل بينها الإمام أسيرًا، ثم عاد لمئذنته محررًا، لكنها باتت هي أسيرة لقرار سياسي!

ابتلع إبراهيم نواهضة (55 عامًا) الحسرة في حياته مرتين، الأولى عندما استبدلوا نص تهنئة بالإفراج عنه بقولهم له "أنت ممنوع من الخطابة أو التدريس في المساجد بقرار من وزارة الأوقاف"، فلم يعد له مكان بين جلسات التجويد هناك، وحسرة ثانية عندما قطع راتبه بعدها بأربع سنوات فقط!

على الرصيف!

بدأت حكاية هذا الشيخ عام 1993 عندما اعتقلته قوات الاحتلال الإسرائيلي، لكنها لم تنته كما كان متوقعًا بــعام الإفراج عنه إبان الـ 2003!

وبدلًا من أن يتم تكريم هذا المناضل كما كان مفترضًا، انتهى به المطاف على قارعة الطريق وأمامه كرتونة من التمر!

فجرًا يجتاز الحاج إبراهيم مسافة 90 كيلو متر حتى يصل إلى صاحب البستان، يقول "للرسالة": "أقطع نصف المسافة وهو يفعل كذلك، ونلتقي في منتصف الطريق لاستلام كراتين التمر".

لماذا التمر؟ وما هي الحكاية؟ يجيب أبو العز بأنها مبادرة جديدة مع مجموعة من أصدقائه من جيله قائلًا: "أخذنا على عاتقنا أن نذهب إلى منطقة الأغوار برسالة إنسانية ووطنية، ببيع تمر الأغوار المستهدفة حتى ينجو هذا الموسم من الخسارة، حتى لا تكون أراضي أهالي الأغوار عرضة لمصادرتها من الاحتلال".

نقاط البيع لم تقتصر على جنين، حيث وزع ورفاقه التمور على كل الضفة الغربية، وبات البيع على الطرقات، كما أخبرنا بذلك أبو العز الذي توجه للأغوار خلال موسم البطيخ كذلك قبل أشهر. 

يعلق بتنهيدة: "كل موسم تدخل البضائع الإسرائيلية إلى السوق لتقتل منتج الأغوار".

لم تنج منتجات الأغوار فحسب، هذا المحرر يحاول النجاة من ضيق عيشه بعد 14 عامًا على قطع راتبه، الآن يصلي الفجر وينطلق قبل الشمس حتى يكسب قوت يومه من بيع التمر!

نبرة صوته، التي وصلتنا عبر الهاتف، كانت تشعرنا بحالة الرضا التي يعيش؛ رغم معاناته لساعات تحت أشعة الشمس ووقوفه دون ظل أو سند، يواسي نفسه بالقول: "لقمة الحلال صعبة، لكنها شهية".

منذ عام ونصف يُسّوق المحرر إبراهيم البضاعة الفلسطينية، بعائد مادي بسيط؛ فمعظم الربح يعود على أصحاب البساتين في الأغوار.

أصحاب الرسائل حياتهم شاقة لا خلاف على ذلك، لقد أكد على ذلك الحاج أبو العز "سأبحث عن العمل ليل نهار، وسأغلف هذا العمل برسالة وطنية إنسانية حتى أترك أثرًا في كل موقع أصل اليه".

قطع راتب!

ماذا حدث لهذا الإمام بعد فصله التعسفي؟ ماذا حدث لرجل غُيب عن الشمس قسرًا عشر سنوات، أو هل يا ترى استسلم لكل هذا البؤس!

استأنست الهموم ببعضها في حياة أبو عز، فبدأت أجهزة السلطة الأمنية بملاحقته واعتقاله إلى أن قطع راتبه كأسير محرر عام 2007.

تخبرنا حرقة قلبه: "تفاجأت من قطع راتبي، لقد قطع بغير حق (...) قمت بعمل وطني وعانيت داخل السجن سنوات".

حالة نضالية عايشها المحرر قبل السجن، مرورًا بسنوات أسره وإبعاده، فالأصل أن يكافأ على ذلك كما أقر له القانون الفلسطيني، فالراتب حق مكتسب لكل مناضل أو أسير!

لم يترك بابًا إلا وطرقه من رجال قانون ومحاماة ومراكز لحقوق الانسان، حاول إيصال صوته وسؤال واحد قد تاهت إجابته: "لماذا يقطع راتبي دون أي جنحة أو وجه حق أو تجاوز للقانون؟"

يصمت لبرهة وكأنه وجد الإجابة: "لقد كان قرارًا سياسيًا بامتياز من بطانة حول الرئيس أوعزت له بقطع رواتب العشرات من الأسرى". 

مصروف طفل!

لم تلفت نظره قطع الحلوى أو المشروبات الغازية كسائر الأطفال من جيله، يقول "كنت أحرم حالي من المصروف عشان أشتري كتابا جديدا".

تدريجيًا كبر الحلم الطفل الذي أصبح مديرًا لمركز الدراسات القرآنية والنبوية في جنين، ذاك المركز الذي يهتم بالقراءات والتفسير، ويحوي في مكتبته 2000 كتاب بدأ جمعها عام 1979 بينها كتب قديمة وموسوعات، يُعلق: "كل كتاب اقتنيته كتبت عليه تاريخ شرائه وثمنه وبعض التفاصيل الأخرى".

لم يمض عام واحد على قطع راتب المحرر إبراهيم نواهضة حتى أقدمت الأجهزة الأمنية على مصادرة مكتبة الشيخ أبو العز، وتم اغلاق المركز ولوحق أفراده عام 2008!

لم ينس أبو العز رائحة كتبه، وشكلها، ولون صفحاتها، لقد حرقوا قلبه عليها، إلى أن اشتد التضييق واعتقاله بشكل متتال لدى السلطة أوائل فترة الانقسام الفلسطيني. 

مرت السنوات حتى انتهى المطاف بهذا الإمام أمام حبات تمر يبيعها على قارعة الطريق، مؤمن هو بأن الله اختاره لدرب المقاومة، بذات الرضا يقول: "أمضيت عشر سنوات ولم أندم لحظة واحدة على هذا الأمر، دفعت ضريبة الوطن والدين بقلب مفتوح ونفس راضية لقضاء الله".

يمسح ذرات عرق تجمعت على جبينه ويختم حديثه "أحيانا أشعر ببعض الخجل وأنا على الرصيف أبيع التمور، قد يؤثر ذلك على نفسيتي، ثم أعود لأتذكر رسالتي (...): أن أمسح عرقي في الدنيا خير من ذاك الظالم الذي سيغرق في اثمه يوم القيامة لقطعه راتبي وظلمي".




 

اخبار ذات صلة