أن تصل عمر الثمانين وتمشي على قدميك فهذه نعمة من الله، ما بالك لو بقيت تتمتع بذاكرة قوية دون أن تنسى التفاصيل خاصة لو كانت تتعلق بالمسائل الحسابية.
معادلات الجبر وقوانين الهندسة مازالت محفورة في ذهن الثمانينية "إكرام الأسطل" التي أفنت أكثر من ثلاثين عاما من عمرها تعمل معلمة في البحرين ثم عادت إلى بلدها لتعلم الطالبات بضع سنوات وتتقاعد.
ما سبق قد يكون عاديا لأشخاص كثر في عمرها، لكن المميز أن السيدة الثمانينية فتحت باب بيتها لأولاد الجيران حال استعصى عليهم درس في الرياضيات، لاسيما في ظروف الحجر المنزلي الذي فرضته جائحة كورونا، وألزم الطلبة بيوتهم واضطروا للتعلم عن بعد.
في مشهد غير مألوف جلست السيدة الأسطل على طاولة ومقابلها ابنة الجيران "سجى ضاهر" في الصف السابع لتحل لها مسألة رياضية عجزت الصغيرة عن حلها، فطرقت باب المعلمة التي كانت أخبرتها في وقت سابق "تعالي بدرسك علوم ورياضيات".
حديث علمي دار بين الأسطل التي لاتزال تحفظ قوانين الرياضيات، والطالبة "سجى" حول (ضرب وطرح الأعداد الصحيحة) التي شرحتها معلمة المدرسة عبر الإنترنت ولم تفهمها فلجأت إلى جارتها المعلمة التي خيرتها (هل أشرح لك الطريقة الأفقية أم الرأسية؟)، ومن ثم راحت تسترسل بالشرح وهي تمسك قلم الرصاص بيدها التي بانت عليها خطوط الزمن.
بذاكرة قوية بدأت المعلمة تشرح لطالبة الصف السابع، والأخيرة تنصت وتجيب على المسائل، لتنتقل إلى درس الهندسة حيث قانون محيط الدائرة الذي بدأت سجى تحضر له لتتجاوب مع معلمة المدرسة عبر الانترنت "التعليم عن بعد".
مجرد أن طلبت "سجى" من جارتها الثمانينية أن تراجع لها درس الهندسة، سرعان ما سألتها المعلمة "ما معني ن.ق"، لتفكر الطالبة قليلا، وتبدأ الأسطل بالشرح وتعلمها كيفية امساك "الفرجار" لرسم الدائرة.
بعد ساعة قضتها الأسطل وهي تشرح للصغيرة، تحكي "للرسالة" أنها اعتادت على مراجعة دروس الرياضيات لأولاد الجيران خاصة تلك التي يستعصي عليهم حلها، وتتباهى أن منهم أصبح طبيبا أو مهندسا وأخرى صيدلانية، فهي تعتبر بيتها مدرسة لكل من يطرق بابها لحل أي مسألة حسابية.
تقول وهي تقلب بدفاتر التحضير التي تجاوز عمرها الخمسين عاما " لا شيء يصعب عليّ، احتفظ بذاكرة قوية، ولا زلت مستعدة أن أقف أمام الطالبات في الفصل وأشرح لهن العلوم والرياضيات".
تضيف: لم أدرس الرياضيات في الجامعة بل كانت شغفي وعملت بها خلال بعثة عمل للبحرين، لكني في حقيقة الأمر درست الحقوق في جامعة الإسكندرية"، متابعة: ما جعلني احتفظ بذاكرتي الحسابية أنني كنت أربطها في الأمور الحياتية.
لم يكن عمل الأسطل يقتصر على تعليم الطالبات الرياضيات والعلوم في البحرين، بل كانت يوميا وبعد العصر تذهب للقرى البعيدة لتعليم النساء ضمن برنامج "محو الأمية".
وتصف التعليم عن بعد في ظل جائحة كورونا بالجيد خاصة وأن الطلبة يواكبون التطور، مبينة أنه من خلال مسيرتها العملية في سلك التعليم ترى أن الركيزة الأساسية في تأسيس الطالب هم أولياء الأمور وعليهم متابعة الطفل في صفوفه الأولى كما المعلم.
وتتذكر الأسطل مدرسة "عكا" التي تلقت فيها تعليمها وكانت مديرتها آنذاك "فرحانة المصري"، أما مدرستها الثانوية فكانت الزهراء وسط مدينة غزة، والتي اضطرت حينها لقطع مسافة طويلة بالسيارة لتصل إليها برفقة شقيقتها وبتشجيع من والدها الذي كان يحب التعليم ولا يميز بين بناته وأولاده في تلقيه.
بعدما أنهت مسيرتها العملية في البحرين كرمت من وزير التربية والتعليم آنذاك، وحين عادت إلى قطاع غزة بقيت طالباتها يتواصلن معها من حين لآخر عبر الهاتف، ويرسلن لها الهدايا التي لاتزال تحتفظ بها.