أسجل شهادتي الحية على بداية اندلاع الانتفاضة الثانية في الثامن والعشرين من سبتمبر 2000، فقد كانت الشرارة الأولى في المسجد الأقصى، حين هب المصلون للدفاع عن مسجدهم وغضبًا لاقتحامه يوم الجمعة من قبل (أرائيل شارون) رئيس الوزراء الأسبق آنذاك، ولكن "شرارة اللظى" التي قادت الهبة الفلسطينية للاستمرار وعدم الانطفاء كسابقاتها، كانت باستشهاد الطفل (محمد الدرة) وانتشار صورته المؤلمة كالنار في الهشيم وهو يموت في حضن والده.
لقد عايشت ذلك اليوم، والحدث أمام ناظري على مفترق الشهداء بغزة "نتساريم" سابقًا، حينها تجمع الغاضبون من أبناء شعبنا في اليوم التالي، معبرين عن غضبهم لاقتحام الأقصى ورشقوا الاحتلال بالحجارة، وكان الرد الهمجي من الموقع العسكري المتواجد في هذه المنطقة بأن أطلق وابلًا كثيفًا من الرصاص بشكل هستيري وفي كل الاتجاهات على العُزّل من الأطفال والشباب والشيوخ والنسوة، ما أوقع عشرات الشهداء والجرحى من ضمنهم الدرة.
وتطور الموقف إلى حد إطلاق الاحتلال عدة قذائف "لاو" على المواطنين الذين التجأوا لنقطة الارتباط العسكري الذي من المفترض أنها كانت تجمع أجهزة أمن السلطة والاحتلال للقيام بدور "التنسيق الأمني"، وازداد المشهد قساوة حين قصفت طائرة "أباتشي" سيارة مدنية خالية من الركاب كانت متوقفة في نفس المكان، وبالمناسبة كان نصيبي من الانفجار "شظية" أصابتني في بطني بصورة طفيفة، حملوني على إثرها "غصبًا عني" في الإسعاف مع جملة المحمولين، وهنا لست بصدد الحديث عن كيفية اكتشاف صديقي -سامحه الله- بعفويته خبر إصابتي الذي أخفيته عن أسرتي، خشية الملامة بعد اصابتين في الانتفاضة الأولى.
غير أن الأهم هنا، أنه مع ارتفاع عدد الشهداء والمصابين من المتظاهرين، نتيجة الاستهداف المباشر والقنص اليومي المتعمد للمواطنين في كافة المواقع والمحافظات، استدعى ذلك تدخل عناصر أمن السلطة للرد على مصادر إطلاق النار، وإن كان هذا الأمر غير منظم وفيه خروج عن تعليمات "بعض" قيادات السلطة وأجهزتها آنذاك، إلا أنه شكل نقطة تحول مهمة وحافزًا لدخول فصائل المقاومة الفلسطينية "بعين قوية" على الخط الذي حوربت فيه لسنوات وتحملت لأجله مرارات وعذابات كثيرة، وما عادت المقاومة إلى يومنا هذا تعمل حسابًا لأية اتفاقيات وارتباطات كانت تكبل أيديها وتحول بينها وبين الدفاع عن شعبها.
وحتى لا يلومنا من يرون في التفاهمات الحالية مع غزة بأنها لا تختلف عن الاتفاقيات بين السلطة والاحتلال والادعاء بأنها تسير بذات النهج، أقول : لا وجه للمقارنة بين مَن يعدون العدة للاحتلال و يجبرونه على الرضوخ لتنفيذ (الحد الادنى) من الحقوق والمطالب الفلسطينية تحت وقع الصواريخ ووسائل أخرى بسيطة، وبين من كان يراهن على المفاوضات والأنظمة المتخاذلة وظل يحارب المقاومة في سبيل الحفاظ على كيان أوسلو الهش لأكثر من ٢٥ عامًا حتى تغول العدو في تهويد المقدسات والاستيلاء على الأرض والتنكر لكل الحقوق الفلسطينية".
وهنا أضيف: لا بد أن الجميع فهم الدرس وتعلم من تجاربه ولا داعي للمكابرة أكثر، فالعودة إلى خيار الوحدة والمقاومة يفترض أنه هو الطريق الوحيد الذي يجب أن نسلكه لمجابهة الاحتلال والتطبيع العربي المتدحرج معه، بعد أن باعنا وتخلى عنا الجميع، وفي النهاية التعالي على كل الجراح و" ملناش إلا بعض".