حملت باقة أزهارها، وتوشحت بشالها المطرز، ربما كانت يداها ترتجفان، فلسطينية على بوابة المعتقل، تنتظر ثمانية عشر عاما، تراهن على هذه اللحظة، نهاية طريق الآلام الذي بدأت السير فيه حينما اعتقل خطيبها عبد الكريم الدايم من محافظة نابلس.
حينما دخل عبد الكريم السجن كانا في منتصف العشرين، والآن وقد تجاوزا الأربعين، ينظران إلى عداد العمر وهما يرميان وراء ظهرهما عدد الساعات والأيام، يتعانقان عناق المشتاق الذي وصل أخيرا إلى نهاية النفق، وها هو سيبدأ مرحلة جديدة مع ظهور الضوء أخيرا.
يقول عبد الكريم: ما زلنا على العهد وما زالت قضيتنا الفلسطينية هي الأولى، يتحدث بفرح بينما يحضر رفاقه لزفاف تأخر سنوات طويلة ويضحك بينما تساعده جنان في ارتداء ساعته ونظارته، دون حساب الوقت القادم ولا التالي، فالباحث عن الفرح لا يعد الساعات.
وقف عبد الكريم أمام الكاميرا فخورا بها: "كانت أمي وأختي، كانت سندي طوال السنوات السابقة، هي الأساس والحنان والعطاء، وحينما فقدت أمي في عام 2010 وأنا داخل الأسر، وقوفها إلى جانبي أشعرني بأنها أمي، لقد أصبحت أمي فعلا، كانت تركض ورائي من سجن إلى سجن ومن معتقل إلى معتقل، ولم تيأس على مر السنوات الطوال.
ولم ينس عبد الكريم أن فرحته منقوصة، ففراق أحبته وزملائه الذين قضى معهم نصف عمره هناك كان موجعا رقم لقاء أهله "أشعر أني ولدت من جديد وحزين لفراق زملائي الأسرى، ولكني متأكد أن الفرج قريب"
ومن بين دموع الفرح وجهت جنان رسالة لأهالي الأسرى: "اصبروا، وستفرحون هذه الفرحة قريبا بإذن الله، وستهزم إرادتنا كل محاولات السجان".
وفرحت جنان فرحة وسعها السماء والأرض، ولكنها شعرت أيضا أنها خجلة أمام الأسرى المتبقين خلف القضبان وأمام أمهاتهم وزوجاتهم وفتيات مثلها قررن الانتظار، بل وأمام دموع أمهات فقدن أبناءهن شهداء في الزنزانة دون نظرة وداع أخيرة.
تقدمت والدتا الاسيرين سامر ابو دياك الذي استشهد داخل الزنزانة، واحمد ابو خضر المحكوم 11 مؤبدا لاستقبال الاسير عبد الكريم، مبتهجتين تتخيلان الفرحة التي حرمتا منها تتجسد أمامهما بفرحة جنان وعبد الكريم.
وضحكت جنان كثيرا وهي تقلب في أغراض المعتقل التي أخرجتها من جيب زوجها، وقضت معه ثمانية عشر عاما، هوية قديمة مغلفة باللون البرتقالي لم تتغير إلى اللون الأزرق كما حدث في السنوات الأخيرة، يخرج الأسير ليبدأ من نقطة أخيرة توقفت عند أول لحظة في اعتقاله، ولكنه يكمل الطريق وكأنه لم يكن معتقلا يوما.
وزف العروسان محمولين على الأكتاف وصولا إلى منزل الأسير في سيلة الظهر قضاء نابلس حيث تقطن العائلة واليد تحتضن اليد للمرة الأولى، وتضحية المرأة الفلسطينية تتجلى في قصة جديدة ليست الأولى وليست الأخيرة، فلطالما انتظرن فتيات عمرا طويلا لأجل لحظة كهذه، متناسيات عداد السنوات ليقفن وقفة شرف ويشكلن كتفا قوية يستند عليها رجل يقبع خلف زنزانته ظلما.