في النصف الأخير من مارس/آذار 1945، نشأت جامعة الدول العربية، مُتخلّقَة في أرحام شتى من أمشاج شرقية وغربية، لتعاصر بذلك أزمة فلسطين من أيامها الأولى، وتشهد على أزمات العرب خلال أكثر من 7 عقود.
وخلال تلك العقود، لم تكسب الجامعة العربية قوة الشباب ولا حكمة المسنين، وها هي الآن تلفظ أنفاس الشجب والتنديد اللذين كانا طيلة عقود أقوى أسلحتها.
كان العرب في السنين الخوالي "يتشرفون" بقيادتها ويتنافسون على رئاستها، ثم تحولت رئاستها اليوم إلى جمرة تتقاذفها أيادي القادة، بعد الإعلان عن التطبيع بين الإمارات والبحرين مع إسرائيل.
ولم تكن "الجمرة الحارقة" غير تلك التي أحرقت آمال الشعوب العربية طيلة العقود السبعة الماضية، قبل أن تعود على نفسها بالالتهام؛ "فالنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله".
رحلة البحث عن رئيس
جاءت ارتدادات التطبيع الإماراتي البحريني سريعة على جامعة الدول العربية، فكانت ضربة توشك أن تكون قاضية على ناصيتها المثقلة بركام السنين وعقود الفشل والضياع.
فقد اعتذرت حتى الآن 6 دول عن تسلم رئاسة دورتها الحالية، ولم تتطوع أي دولة حتى الآن لتسلم الدور ورفع الراية، علما بأن رئاسة دورات الجامعة تتم في الظروف الطبيعية وفق الترتيب الهجائي لأسماء الدول الأعضاء.
بدأت القصة في التاسع من سبتمبر/أيلول الماضي، حين أسقطت الجامعة مشروع قرار قدمته فلسطين في اجتماع وزراء الخارجية، يدين اتفاق التطبيع بين الإمارات وإسرائيل.
وذابت في هذا الاجتماع عبارات الشجب والتنديد، بعد أن أصبح تيار التطبيع قوة ضاربة تتمدد مثل ألسنة الرمال وأمواج الملح تحت أركان البيت العربي المهزوز.
وسرعان ما التقط عراب التطبيع جاريد كوشنر مستشار الرئيس الأميركي الخيط، ليعلن في اليوم الموالي أن عدم إدانة الجامعة العربية اتفاق التطبيع بين الإمارات وإسرائيل يشكل تحولا مهما في الشرق الأوسط"، وأن صبر الدول المناصرة للفلسطينيين قد نفد، وأنها باتت تسعى للتطبيع مع إسرائيل بما يخدم مصالحها.
بيد أن خطوات التطبيع تسارعت في الأيام التالية، لتتوج في 15 من الشهر ذاته (سبتمبر/أيلول) بتوقيع الإمارات والبحرين اتفاقيتي تطبيع مع إسرائيل في حفل بالبيت الأبيض برعاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، متجاهلتين حالة الغضب في الأوساط الشعبية العربية.
الاعتذارات
بعد نحو أسبوع من توقيع اتفاقية التطبيع، وتحديدا في 22 سبتمبر/أيلول، قررت دولة فلسطين التخلي عن حقها في رئاسة مجلس الجامعة العربية للدورة الحالية، ردا على التطبيع مع إسرائيل.
وقال وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي تعليقا على ذلك: إن فلسطين لا يشرفها رؤية هرولة دول عربية للتطبيع مع الاحتلال، و"لن تتحمل عبء الانهيار وتراجع المواقف العربية والهرولة للتطبيع".
وأضاف أن هذا القرار جاء بعد اتخاذ الأمانة العامة للجامعة موقفا داعما للإمارات والبحرين، اللتين طبعتا علاقاتهما مع إسرائيل، في مخالفة لمبادرة السلام العربية.
كان يفترض أن تتسلم قطر راية الجامعة العربية، بيد أنها أعلنت في 25 سبتمبر/أيلول اعتذارها عن تسلم الدورة الحالية للجامعة عوضا عن السلطة الفلسطينية، حسب رسالة وجهتها المندوبية العامة القطرية لدى الجامعة العربية.
في الأيام اللاحقة لذلك توالت الاعتذارات؛ بدءا من الكويت، ثم لبنان، فجزر القمر، لا تريد أي منها أن تُذكر في دفاتر التاريخ أنها تولت قيادة العرب في ظرف كهذا.
وحين وصل الدور قبل أيام إلى ليبيا، بادرت هي الأخرى يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول الجاري بالاعتذار عن تولي الرئاسة الدورية للجامعة، لتدق بذلك مسمارا آخر في الجسد المنهك لجامعة العرب.
وهكذا باتت زعامة الجامعة العربية كرسيا شائكا وجسدا أجرب تتفادى دول عديدة الاقتراب منه، بعد أن "طلعت ريحته" أكثر مما شكا اللبنانيون.
متى يعلنون وفاة جامعة العرب؟
بغير الورود والدموع يودع الشعب العربي الجامعة، بعد أن طغت على وسائل التواصل الاجتماعي دعوات متعددة لإعلان وفاة أم العرب الشلاء.
وتفاوت تعاطي المغردين العرب وهم يتابعون مسلسل الاعتذارات بعد موجة التطبيع الأخيرة، حيث رآها بعضهم صحوة ضمير تعبر عن إحساس القادة العرب بعدمية الجامعة وفشلها، في حين تساءل آخرون عن المانع من إعلان العرب وفاة جامعتهم؟
وقال الكاتب والمغرد قطب العربي إن هذه أول مرة تعزف الدول العربية عن رئاسة الجامعة، "التي كانت تمثل الحد الأدنى للضمير العربي فأصبحت تمثل ضمير محور التطبيع فقط".
واعتبر الإعلامي المصري معتز مطر أن اعتذار تلك الدول عن رئاستها يؤكد ما قيل سابقا من أنها ماتت إكلينيكيا، والمطلوب الآن هو التعجيل بدفنها وتسليم رئاستها لإسرائيل.
واعتبر مغرد آخر أن تخلي 6 دول عربية عن رئاسة الجامعة العربية "بعد الغطاء الذي منحته للمطبعين هو أفضل تضامن عربي منذ تأسيس الجامعة".
واقترح مغرد آخر إعارة الرئاسة الدورية الحالية لدولة أخرى من خارج الإقليم، لأنه لا أحد يقبل أن يقود الجامعة في ظرف كهذا.
واتهم أحد المغردين العرب بازدواجية المعايير في التعاطي مع قضية التطبيع؛ فحين وقع السادات اتفاقية كامب ديفيد في 1978، طُردت مصر من الجامعة وقاطعها العرب ونقل مقر الجامعة لتونس، فلم لا يقاطَع المطبعون اليوم؟
على ضريح الفشل
تحت سقف القطيعة، وفوق ركام من الأزمات، ومن رحم الاستعمار والدكتاتوريات؛ ولدت الجامعة العربية سنة 1945، وتقاسم مؤسسوها العهد على مبادئ هلامية، من بينها الالتزام بمبادئ الأمم المتحدة، والمساواة القانونية بين الدول الأعضاء، وعدم التدخل في شؤون الدول الأعضاء، والمساعدة المتبادلة.
وطوال عقودها الماضية سارت الجامعة العربية مشرقة عن مبادئها وسارت المبادئ مغربة بحثا عن راع جديد.
لم تلتزم الجامعة ولم تلزم معظم دولها بمبادئ الأمم المتحدة، لا في الحرية ولا العدالة والديمقراطية والنماء الاجتماعي، فأقامت الدكتاتورية كراسيها على قواعد من جوع وخوف عربي في زمن لا إيلاف فيه ولا رحلة شتاء ولا صيف نحو الحرية.
وبدل عدم التدخل في شؤون الغير، كانت -في أحيان عديدة- المؤامرات والحصار والاحتلال والتدمير من الداخل والخارج سلوكا بارزا في سياسات عدد من الدول العربية، خاصة خلال العشرية المنصرمة، التي شهدت أقوى حراك عربي نحو الحرية، وأفظع نكسة عربية نحو القهر والدكتاتورية.
ليست الجامعة العربية كغيرها من بنات السبعين، لا أحفاد ولا بنين يجتمعون حولها، لا هدايا بمناسبة عيد الميلاد، ولا حكايات ولا قصص من زمن الصبا وأيام الشبيبة.
وفي محصلة أيامها، ها هي الجامعة العربية -وفقا لما يرى مغردون- تلفظها الأيام العربية كأنها مصابة بمرض معد يفر منها الأصحاء فرار اللاجئين السوريين من الأسد.
المصدر : الجزيرة + وكالات