صحيح أن التجربة مع آل غور الديمقراطي وبوش الجمهوري توجب التريث بتأكيد نجاح بايدن وخسارة ترامب، في معركة الرئاسة الأمريكية في العام 2020، وذلك عندما تأخر الإعلان الرسمي عن الفائز بالرئاسة حتى صدور قرار المحكمة العليا، والتي قلبت النتيجة في مصلحة بوش الابن، بعد أن كان آل غور يتلقى التهاني بالنجاح طوال 37 يوما، لكن تلك التجربة لا تعني أن تتكرر حتما هذه المرة أيضا؛ لأن الظروف والحيثيات مختلفة في التجربتين الحالية والسابقة، مما يسمح بإبقاء باب انقلاب النتيجة مفتوحا، ولكن بشق أضيق كثيرا مما كان عليه في تجربة آل غور وبوش الابن.
والإغراء قوي جدا بألاّ ننتظر قرار المحكمة، ونسارع بالتعليق على النتيجة المعلنة الآن وغير الرسمية بنجاح بايدن وهزيمة ترامب، وهو ما فعله كل الذين يريدون لترامب أن يرحل عن المسرح، وأن تسدل الستارة على مسرحية مثّلت كل ما هو غريب وشاذ و"متطرف" من قِبَل رئيس أمريكي.
ولهذا أسرع الجميع تقريبا إلى اعتبار ترامب خاسرا وبايدن فائزا، دون انتظار قرار المحكمة. وكان بعض الفلسطينيين من أسرع من تنفس الصعداء، ولا سيما أنصار سياسات التسوية واتفاق أوسلو.
فهؤلاء الفلسطينيون وجدوا أنفسهم مع سياسات ترامب في موقع يفرض عليهم قطع العلاقات مع أمريكا، وفي حِل من التزاماتهم في اتفاق أوسلو وغيره من الاتفاقات. وذلك بعد إعلان ترامب ضم القدس واعتبارها عاصمة للكيان الصهيوني، ونقل السفارة الأمريكية إليها، ووقف الاعتمادات المالية الأمريكية للسلطة الفلسطينية، ولوكالة الغوث، كما إعلان حل القضية الفلسطينية وفقا لما يسمى "صفقة القرن" التي لم تترك للفلسطينيين إلا أجزاء من أرض الضفة الغربية، وقد أخضعتها للمفاوضات الثنائية، أي حتى لم تتركها للفلسطينيين.
كان لهذا كله (سياسات ترامب) وجهان، وجه يتعلق بالتبني الكامل للمشروع الصهيوني، ووجه فرض أن تجتمع كل الفصائل الفلسطينية في لقاء الأمناء العامين في بيروت ورام الله برئاسة محمود عباس. بالطبع هذا الوجه الثاني يجب أن يعتبره كل من قالوا في الانقسام أكثر مما قاله مالك في الخمر؛ إنجازا للوحدة الفلسطينية أو تأسيسا لها. وهو ما يفرض عليهم اعتبار ذلك من "بركات" سياسة ترامب، ما داموا يعتبرون الوحدة الفلسطينية أهم من السياسة والممارسة؛ لأن سياسة "حل الدولتين" واتفاق أوسلو يقتضيان الانقسام، ولا يمكن أن يكونا طريقا للوحدة أو المصالحة.
كان وضع الوحدة والمصالحة أهم من انهيار اتفاق أوسلو وحل الدولتين، في نظر البعض، وهذا واضح من هجائهم للانقسام، علما أن الانقسام ولّد قاعدة المقاومة العسكرية الجبارة في قطاع غزة، وهي مسألة لم تستحق منهم أي التفات أو حرص عليها أو تقدير لأهميتها.
حسنا، لولا سياسات ترامب على سوئها المتمادي حتى النهاية، لما تحقق لقاء الأمناء العامين لوحدة، أو الطريق إلى وحدة، ولما قُطعت العلاقات الأمريكية مع سلطة رام الله وقيادة فتح، ولما عاد الصراع مع الكيان الصهيوني باعتباره صراع وجود، وليس صراع حدود واقتسام لفلسطين قسمة يندّى لها الجبين، أو قسمة غبن حتى الخزي والعار (20 في المئة للفلسطينيين مع تصفية قضية اللاجئين).
هذا يعني من جانب الذين رحبوا (ودعك من التحفظات الشكلية) بخسارة ترامب ومجيء بايدن؛ أنهم يأملون أن تفتح خطوط تعيد المياه إلى مجاريها، في الأقل، كما كانت قبل رئاسة دونالد ترامب. وهذا بدوره كارثة لا تقل خطرا على الوضع الفلسطيني والقضية الفلسطينية من مشروع ترامب "صفقة القرن"، إلا إذا كان ثمة فارق بين أن يؤكل لحمنا شواء، أو مغليا على "نار هادئة".
بل إن سياسة دونالد ترامب والتماهي بينها وبين المشروع الصهيوني أفضل حين يُنقل الصراع إلى صراع وجود، أي إلى حقيقته التي طالما أُريد إخفاؤها من جانب المشروع الصهيوني والإدارات الأمريكية التي غطت حرب الوجود الأولى (1948/1949) والثانية 1967، وسياسات الاستيطان وتهويد القدس واقتسام المسجد الأقصى (كلينتون مفاوضات كمب ديفيد 2)، والتي لطالما جاءت قرارات الأمم المتحدة ومشاريع التسوية والحلول الديمقراطية والإنسانية للقضية الفلسطينية لإخفائها وتغطيتها بقماش حريري.
ولهذا يمكن القول "خسرناك يا ترامب" إذا كان مجيء بايدن سيعيد "حليمة إلى عادتها القديمة"، أو يعيد القضية إلى مشاريع التسوية والمفاوضات.
على أن لهذا التغيير الناجم عن خسارة ترامب ومجيء بايدن، وما يمكن أن يتم في أثنائه ومن بعده، من انشغالات وإرباكات أمريكية داخلية، أو دولية بين أمريكا وكل من الصين وروسيا وأوروبا، أو إقليمية وعربية، أو على مستوى خيبة أمل دول الردّة التي راهنت على دونالد ترامب وسياساته، فإن فرصة أو فرصا ستلوح أكثر من ذي قبل في حالة اندلاع انتفاضة شعبية وعصيان مدني تحت قيادة فلسطينية موحدة لدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات بلا قيد أو شرط أو مساومة أو مفاوضات.
إن اندلاع انتفاضة سيربك إدارة بايدن، ويربك أكثر نتنياهو، وسيضع الصراع في موقعه الصحيح، صراعا ضد احتلال واستيطان وضم وتهويد. وهي أهداف لا يستطيع بايدن والغرب عموما، أو الدول الكبرى والرأي العام العالمي، ناهيك عن شعوبنا وشعوب العالم، إلا أن يُقرّوا بعدالتها. فالاحتلال مدان وغير شرعي، وكذلك الضم وتهويد القدس، وهي إدانة مستندة إلى القانون الدولي، ومعززة باعتراف مسبق من قِبَل أغلب الدول في هيئة الأمم المتحدة، الأمر الذي يجعل الإصرار عليه ومئات الألوف بالشوارع قضية رابحة قابلة للتحقيق بلا قيد أو شرط. وذلك إذا لم نسمح بإقحام مشروع تسوية من جديد، أو إقحام "الدولة الفلسطينية" التي ستعيدنا إلى التفاوض والمماطلة وإفقاد التركيز على دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات.
دخول الصراع، وفتح المعركة ضد الاحتلال والاستيطان والضم والتهويد، وعدم السماح في فتح أي موضوع آخر، يتعلق بالوضع الفلسطيني والقضية الفلسطينية، يعني تحرير الأرض أولا (صيد "الدب" أولا)، وإبقاء الباب مفتوحا على مصراعيه لمواصلة صراع الوجود الذي يجب أن ينتهي بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، ومن رأس الناقورة إلى أم الرشراش.
تلكم هي الفرصة التي يجب ألا نضيعها. فنحن في لحظة موازين قوى وأوضاع تسمح بتحقيق إنجاز تحرير أرض، بلا قيد أو شرط، وليس مجرد مقاومة أو تمسك بالحقوق والثوابت فقط.
عربي 21