قائد الطوفان قائد الطوفان

رجال صغار

بقلم: رشا فرحات

أصوات القذائف ما زالت تعلو وتعلو، قادمة من بعيد، حيث هو بيت أحمد الصغير المختبئ هنا برفقة أخته الخائفة إلى جواره، في ركن معتم إلى جوار تلك الدار القديمة المهجورة التي لا يعرف أحمد صاحبا لها، وهولا يقوى على الحركة خوفا من حدوث أي خطر، وكما علمهما والدهما التزما بجانب هذا الجدار، ينتظران حدوث أي من الأقدار، أو بانتظار مجيئه كما وعدهما حينما أمرهما بالاختباء هنا وانتظاره إلى أن يعود.

 الوقت يمضي وقد اعتمت السماء، وتأخر كثيرا، يبدو أنها تجاوزت منتصف الليل، يمد يده إلى أخته المرتجفة الجالسة إلى جانبه، بيد صغيرة بريئة، افترش الأرض بورقة جريدة قديمة كانت ملقاة إلى جانبهما، وفتح اللفافة التي يمسكها بيده، اخرج قطعة الجبن التي أعطاه إياها والده صبيحة اليوم، قبل ذهابه إلى المدرسة، وما زالت قاطنة في أعماق حقيبته المعلقة وراء ظهره، رغيف صغير، قطعة جبن يتيمة، نظرت عيناه إلى أخته سارة الصغيرة في محاولة لتهدءتها "لا تخافي سيأتي أبي ليبحث عنا حينما تتوقف أصوات القذائف" وسيعيدنا إلى البيت.

 كسر من رغيفه قطعة وناولها لها، وهي مدت يدها لتغميسها في قطعة الجبن الشحيحة، ثم وفي  برد الشتاء القاسي مددت رأسها على قديمه وبدأت تغفوا، وصوته يرن في أذنها، سيأتي أبي قريبا ..

أصوات الانفجار تعلو في المكان، لا غرباء، ولا أقرباء، لا صوت يعلو على صوت الموت، يحتار في نظرته الطفولية، يبحث عن أي من المارة ولا يجد أحدا، يبقى في مكانه ملتزما بتنفيذ نصيحة والده، ينظر إلى سارة المرتعشة بردا وخوفا، يحاول أن يغطيها بحقيبته، أو ورقة الجريدة ذاتها، يضم كفيها ليغطيها بكفيه الصغيرتين في محاولة لبث الدفيء في جسدها الصغير، لكنه لا يستطيع، يشعر بالبرد، يرتجف، أصوات القتل من بعيد ترتج رنانة في إذنيه، ينادي والده من بعيد، ولكنه بات يحلم، فكلما سمع صوتا لقصف أو إطلاق نار يخال له أن صوت أبيه قد اقترب، لكنه يعاود الالتزام في مكانه، خوفا من اقتراب الخطر.

تبكي سارة، فيداعبها خائفا ليقضي على ذلك الرعب المزروع في قلبها، فهي ما زالت طفلة، وهو الآن رجل يجب أن لا يسمح للخوف بالتسلل إلى قلب أخته الصغير، يقترح عليها بأن تبدأ بعد القذائف، ويحاول إقناعها بأنهما بعيدين عن مكان الخطر، تبدأ سارة بالعد، يبتسم لها، فتضحك، تحاول النهوض للركض، ولكنه يطلب منها الجلوس، مخافة أن تصادف حدهم فيضربها، يضحك في داخل صدره، أين يمكن أن نرى أحدا هنا، فيبدوا أن أصحاب هذه البيوت هاربين منذ بداية هذه الحرب.

يرص أمامه بعضا من الحجارة، وينادي سارة قائلا" هيا لنلعب قليلا فلم يبقى على مجيء أبي إلا دقائق، دقائق وستكونين في فراشك مستدفئة، لا تخافي يا سارة ، أنت، كبيرة واعية، لماذا الخوف، لن يحدث لنا شيء، وسيأتي أبي ..سترين، سيأتي الآن، يطلب منها أن تبدأ بالغناء وأن تخبره ما تعلمته اليوم في الروضة..

تلبي سارة طلبه برحابة صدر، وتبدأ بالغناء بصوت مرتجف خافت..

يتذكر ما حصل لجيرانهم بالأمس، حينما وقعت تلك القذيفة على منزلهم وهم نيام ، قلبه يخفق، يشعر باقتراب شيء، يرتعب، تبكي سارة فجأة، يحاول تهدئتها، يبحث في حقيبته عن شيء لتسليتها، خوفه يحرك يديه بشكل عشوائي، انه يستشعر وجود شيء خطر لا يعلم ما هو..يبدأ بسؤال نفسه، هل سيأتي أبي هذه الليلة، لم يعد يحتمل هذا الخوف الذي يتصاعد في صدره..تغفوا سارة ويغفوا هو متعباً إلى جانبها ..

تهدأ الأصوات، ويبزغ الفجر محلقاً فوق رؤوسهم الصغيرة، أصواتهم خمدت، مخاوفهم التزمت صمتا مطبقاً، أصوات سيارات الإسعاف تعلو في الأرجاء، يبكي احمد ويمسك بيد أخته، تنظر إليه تميل برأسها على صدره لتهمس بذات السؤال، ألن يأتي أبي يا احمد...فيرد ردا، مختلفا مغايرا، ناضجاً، مسيطراً هذه المرة..

لن يأت أبي يا سارة

البث المباشر