بجسد يرتجف ورأس تنحني ووجوه تحيط به، تعرفه ولا يعرفها، قال الأسير منصور الشحاتيت:" أنا طلعت عزيز نفس، ما طلعت مكسور ولا مذلول، دافعت عن أهلي وأخواني ووطني، طاردت السجن، وصبرت".
استطاع قول ذلك رغم جسده الواهن وذاكرته التي سرقت معه خلال سبعة عشر عاما من الاعتقال فلم يعد يعرف حتى وجه أمه التي تلفه بالبياض، وتبتسم كمقاومة لا تتقن إلا فعل الفرح نكاية في المحتل.
بالأمس، أفرج الاحتلال عن منصور الشحاتيت بعد سبعة عشر عاما من الاعتقال، قضى نصفها بالعزل الانفرادي.
تلقفته الأيدي، أخوة وأهل وأحبة، بينما كان يحدق في عالم المجهول، بذاكرة متقطعة، فغياب العدل لم يتحمله عقل منصور، فغاب في ملكوت آخر.
حروب كثيرة مرت، وحرب منصور لم تنته:" كان يفيق من توهته فيسأل رفاق السجن وهو يهذي:" هل انتهت الحرب العالمية؟" فيجيبونه لقد انتهت يا منصور، تارة يواسونه وتارة يتألمون.
عدالة السماء التي لا تعرفها (إسرائيل)، وعدالة القوانين الدولية، وتشدق منظمات حقوق الانسان، لم تكن عذرا مقبولا للإفراج عن منصور مبكرا حتى يتسنى له العلاج، ولا حتى عذرا لعلاجه داخل الزنزانة، ولا حتى كسر سياسة العزل الانفرادي التي أذهبت جزءا من عقله في اتجاه الريح، فسرقة العقول عن طريق العزل الانفرادي هو هدف آخر تسعى (إسرائيل) لتحقيقه، وتحقق.
لم يكن منصور شحاتيت حينما اعتقل وهو ابن سبعة عشر عاما، صاحب جسد يتحمل كل هذا الأسى، ولكنه كان واعيا مثقفا سابقا لسنه، فقد قال أحد زملاء أسره:" التقيت به في الأسر، مثقف متكلم لبق يتكلم اللغات العبرية والإنجليزية، وخطه بالكتابة جميل بديع، وحافظ للقرآن".
لكن، بعد سنوات العزل لم يعد منصور يتفاعل مع العالم الخارجي، وحتى مع عائلته، وحينما يأتي دوره للحديث عبر الهاتف مع أمه كباقي الأسرى، كان يرفض، لأنه وصل إلى مرحلة من الوجع جعلته ينسى صوت المرأة التي أرضعته فلم يعد يعرفها، فيتولى الأسرى مهمة نقل أخباره إلى أمه.
ورغم ذلك، كانت الأم الثكلى تواظب على زيارة ابنها، تجلس مقابلة له، من وراء الزجاج، تعرفه ولا يعرفها، تكلمه ولا يرد، فتنتهي الزيارة بدمعاتها دون صدى لصوتها ولا إجابة على أي تساءل من تساؤلاتها.
منصور ليس الأول، وحسب تحقيق صحافي نشره الزميل محمد الجمل عن أثار العزل الانفرادي على الأسرى في السجون أثبت أن 30 أسيرا فقدوا قدرتهم على الإدراك وغابت عقولهم.
ويخاف المحتل من تجمعات الأسرى داخل الزنازين، خاصة الأسرى ذوي الثقافة العالية والأفكار المتزنة والقادة منهم، فيحاولون عزلهم بشكل دائم في محاولة لمصادرة آخر ما لديهم من وعي وفكر، وهو نهج متعمد مع أعمدة الأسرى الكبار مثل مروان البرغوثي، وحسن سلامة، وعبد الله البرغوثي، وكل من يعرفون قدرته على التأثير والتغيير، حيث يعزلهم في سجن وحدهم خوفا من تأثيرهم على بقية الأسرى.
ويقسم المختصون وفقا للتحقيق المذكور أنواع العزل داخل الزنازين إلى ثلاثة: الأول عزل الضغط، الذي يمارس على الأسير في الأسابيع الأولى من اعتقاله، أثناء فترات التحقيق، ويتم في زنزانة ضيقة، لانتزاع اعترافاته.
والعزل الثاني عقابي، للأسرى ممن نفذوا عمليات فدائية، مثل الأسير عبد الهادي غنيم الذي قضى أكثر من 26 عاماً في العزل، والنوع الثالث عزل القادة الكبار والمؤثرين.
عزل وضرب وحط من الكرامة، ومصادرة الحق في الحياة، وحتى الحق في رؤية الشمس، مع انقطاع لسنوات طوال عن الحق في الحديث مع رفيق داخل زنزانة، فكانت الجدران ونيس منصور وصديقه لسنوات.
كل هذه القوانين المدروسة بعناية، افتعلتها (إسرائيل) لتصيغ قانونا جديدا في عقل منصور وزملاءئه، قانونا صنعه غياب العدالة التي تتفرج من بعيد وتدعي أنها لا ترى.